وبعيداً عن المشهد المؤلم للأمَّة العربية، والمسلمة...
يبدو أنَّ هناك شيئاً مفقوداً في بنيتها الأساس، جعلها أضعف قوَّة،
والقوَّة في أبنية الأمم ليست وحدها السَّلاح...
القوَّة البناء الدَّاخلي...
الإنسان ذاته، وموقفه من قضاياه، الصُّغرى، والكبرى...
بالأمس كنت أزور صديقةً في إحدى المستشفيات الكبيرة، وهذه الصِّفة لم تكتسبها هذه المصحَّة العالمية إلاَّ بأفرادها من الأطباء المختصين الذين هم بلا شك قد قاموا بإجراءات علمية جعلت مكان عملهم يوسم بصفات تستحوذ على التَّخصيص وتنال السَّمعة والصِّيت...
وكالمصحَّات لا يشهرها بناء هندسي، ولا أسرَّة شاغرة من المرضى ولا صيدلية عامرة بالأدوية، بل يشهرها «أفعال» أطبائها في الممارسة العلاجية والجراحية...، ومن خلال تكاتف أفرادها من هؤلاء...
والحديث دوماً عند زيارة المرضى يتداعى لذكر أمهر الأطباء، فأين هو، وكيف هو، و... هذا الطَّبيب ترك مستشفاه، وذلك سافر للعمل في مدينة أخرى، وثالث طلب نقله إلى جهة ثانية وكلُّ هذه الأسماء، جعلتنا نعرِّج إلى مصحَّات أخرى لا تقلُّ شأناً عن هذه فإذا بنا نعلم بأنَّ مشهورين أو بعضهم في المستشفيات الأخرى قد مرَّت عليهم الرِّيح ذاتها فانتقلوا أو تركوا أو تفرَّغوا لعياداتهم... وكان السَّبب: هذه الحرب الضَّروس الصَّامتة على غير خير، الفاتكة في شرايين التَّضافر، حرب الغيرة والمنافسة وإحاكة أنواع أساليب التَّنفير...
ولئن كان هذا يحدث في فئة الأطباء المتميِّزين من ذوي الكفاءة العليا وممَّن يعتبرون ممثِّلي «العِلم» الإنساني الرَّاقي الذين هم بشائر الفرح والسَّعادة للبشرية حين يحقِّقون لهم العافية ويوفِّرون لهم الابتسامة والرَّاحة... فإنَّ هذا يحدث أيضاً في المؤسسات الاقتصادية الكبرى وفي الجامعات، وفي دوائر الأعمال وبين المفكِّرين والإعلاميين.
والخلاصة من هذه الإشارات هي أنَّ ما يفتُّ في عضد الأمة العربية هو تفكك وحدتها البشرية بين فئاتها الخاصَّة الذين على أيديهم من الواجب أن تتمَّ حركة التَّطوير الحقيقي في مستوى المعارف والإبداع ليتفرَّغوا إلى منجزات أكبر، وأفعال تليق بزمنهم في مجالات الصَّناعة والابتكار، والعدَّة، والمعرفة، والاقتصاد، والتَّعليم، بل الإعلام الذي أصبح له دور بالغ الأهمية في توجُّه الفرد.
ولئن كانت هذه الرّموز في مجتمع مدينة واحدة، فكيف يكون الأمر في الدّول العربية قاطبةً، حيث ستفرغ الأوراق وتنفد الأحبار إن شئنا دراسة ما يكشف عن حال «العلاقات الفردية» بين النَّاجحين الذين يحاربون بعضهم بصمت أو على غير استحياء، ممَّا يحيل بين آمال الأمة من قدراتها البشرية وبين واقع علاقاتهم، هذا الواقع العثرة التي تفتُّ في الأبنية الدَّاخلية لهذه الأمَّة.
|