* جون فيليب دانيال
المكان نفسه الذي انطلق منه «صدام حسين» في رحلة الستين عاما.. شهد نهاية مشواره، في مدينة كانت تفاصيلها ضمن الكتاب المنهجي للتلاميذ في المدارس العراقية إبان حكمه، حين كان الرئيس جزءاً لا يتجزأ من أسطورة طويلة ومحبوكة، تبدأ بعبارة «البطولة لا غير!».. العراقيون الذين عايشوا حكمه، هم الذين داستهم عجلات الحكم البوليسي الذي تأسس بالقوة، تحت شعارات كثيرة كانت تصب كلها في الجملة نفسها «البطولة لا غير!»..
لكن الحقيقة البشعة كانت قوية وقاسية إلى درجة أنها جعلت العالم ينظر إليها مندهشا، وغير مصدق.
بعض العراقيين فقدوا أعصابهم، البعض أجهش بالبكاء بهستيريا.. البعض انطلق يصرخ فرحا، بهستيريا أيضا، والذين صمتوا قالوا كل شيء، لأن الصدمة نفسها قالت الكثير، الرجل الذي كان يتكلم عن الشجاعة ليبرر حياته المليئة بالتناقضات انتهى إلى صورة تداولتها الصحف الدولية، وتبثها التلفزيونات هنا وهناك، قائلة:«انظروا، هذا هو صدام حسين، عثرنا عليه داخل حفرة..!» مع أن الطريقة التي عثر فيها عليه غامضة، إلى درجة أن جريدة مثل «ديلي تلغراف» كتبت عبارة: «وماذا لو كان الأمر مجرد مسرحية ؟».
لم يكن صدام حسين رجلا عاديا، كان ديكتاتورا في نظر البعض، و بطلا حقيقيا في نظر البعض الآخر، لهذا كانت فكرة اغتياله واردة، وفكرة انتحاره واردة أيضا، ولكن استسلامه بالطريقة التي نقلتها قوات التحالف، بذلك الخضوع المثير، تلك هي الصورة الوحيدة التي لم تكن واردة، فما الذي جرى إذن؟
صعوبة المهمة
ما يبدو غامضا هو أن الولايات المتحدة الأمريكية اعترفت أكثر من مرة أن عملية القبض على «صدام حسين» لن تكون بالسهولة التي يعتقدها البعض، ليس لأنه يحظى بالتأييد داخل العراق، بل لأن الفكرة التي يحملها الجميع عن الديكتاتورالعراقي هي الصورة نفسها التي قدمها هو عن نفسه، والتي كان يعبر بها في خطاباته من خلال نداءاته المتكررة للمقاومة، والشجاعة، والصمود، مهربة إلى القنوات الفضائية على شكل تسجيلات صوتية كان يطالب من خلالها الشعب العراقي بالمقاومة وبالصبر،. وعدم الاستسلام للمحتلين.. تلك هي الصورة التي تبناها الأمريكيون في عملية ركضهم المستمر خلف الرئيس العراقي المخلوع، ولعل العملية بدت أصعب ومستحيلة أحيانا أمام تصاعد وتيرة المقاومة من جهة، والإحباط الذي يعانيه الجنود الأمريكيون من جهة أخرى..إلى درجة إعلان حالة من العصيان في أكثر من ثكنة عسكرية أمريكية داخل العراق، باعتراف «توماس روبرت» طبيب نفساني أمريكي مكلف بالإشراف على الجنود «المحبطين»..
فالحقيقة التي «نقلها» الضابط والطبيب «توماس روبرت» إلى صدر الصحف الأمريكية أثارت غضب البنتاجون، لأن الإعلان الرسمي عن إحباط معنويات الجنود يساوي جريمة «إفشاء أسرار عسكرية» وهو الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات في الأوساط الإعلامية الأمريكية التي دخلها الشك، إلى درجة أنها راحت قبل ثلاثة أشهر ماضية تتكلم عن «المستنقع العراقي» برؤية جديدة تساوي عدد الجنود الذين يسقطون في ساحة لا يعرفون في النهاية ماذا جاءوا يفعلون فيها..!
لكن النهاية البائسة للرئيس العراقي المخلوع خلطت كل الأوراق، وأعادت الأسئلة إلى بداياتها نفسها.. أمريكا قوية إذن!.
فأر داخل حفرة
يوم الأحد الموافق 14 ديسمبر، نقل العالم الخبر بكل اللغات.. ظهر «بولبريمر» في لقطة يمكن إدخالها في سياق المسرح السياسي الأمريكي ليقول: «سيداتي سادتي.. قبضنا عليه!» ليرتفع الصياح معبرا عن ابتهاج بعض العراقيين في القاعة، كانت الصورة الأولى للرئيس العراقي المخلوع هي التي أدهشت الجميع، لأنها عكست النهاية الفظيعة لرجل ظل يتكلم بلغة «الأبطال» لتنتشله قوات التحالف من حفرة كان مختبئا فيها! صدام حسين الذي هرب من بغداد يوم سقوطها، هو الذي ظل يصنع أهم المواد الإعلامية في الصحف الدولية، كان يشبه «أساطير» الحكايات، بمجرد أنه استطاع حقا أن يزعج الأمريكيين، وأن يثير الشك في نفوسهم، قبل السقوط التراجيدي لبغداد، مارس «صدام حسين» دور «الفزاعة» التي أخافت الأمريكيين كثيرا، بالخصوص في الأسابيع الأولى من الحرب، حين كانت المقاومة العراقية تثير ارتباك قوات الحلفاء، وتشكك في قدراتهم التكنولوجية المتطورة، فقبل الحرب بأشهر قال «دونالد رامسفيلد» ضاحكا لقناة «السي أن بي سي» إن القدرات التكنولوجية العسكرية الأمريكية تسمح برؤية القميص الداخلي لأي رئيس جمهورية في العالم..!
لكن.. الحرب عرت تلك «الكذبة التكنولوجية!»، بحيث إن الخسائر التي كانت قوى التحالف تتكبدها، جعلت الصحفي والكاتب السياسي الأمريكي «فرانك ستيوارت» يقول للرئيس الأمريكي في مقال كبير: «لا نطلب منك رؤية الملابس الداخلية لقادة الدول، بل نطلب منك رؤية «صدام حسين» وتحديد مكانه فقط ..!»
كان ذلك المطلب على بساطته، صعبا جدا.. لكن بغداد سقطت! انتهت إلى مجرد أسماء لضباط وسياسيين كبار خانوا دولة بحالها ليهربوا إلى الخارج بضمانات أمريكية حقيقية، تشمل: حصولهم على العفو، وعلى الجواز الدبلوماسي الأحمر، الذي يعني «العلامة الجيدة» في أي امتحان صعب، كانت بغداد هي الامتحان نفسه.
|