إذا نظرنا بواقعية وموضوعية في حركة العولمة والبحوث التي قدمتها النخب الفكرية عن العولمة في أمتنا العربية وخارجها، نجد أنه مع شبكات الإنترنت والاتصالات الرقمية والأقمار الصناعية وبسبب تكنولوجيا الاتصال والمعلومات وفي ظل عولمة الاقتصاد والشركات المتعددة الجنسيات تصبح سلطة الدولة بمثابة سلطة محلية للنظام الدولي وأصبح من المستحيل على الدولة السيطرة على الإعلام والتحكم في تدفق المعلومات، ومن أهم سلبيات ذلك ضعف قبضة الدولة والحد من إمكانية سيطرة الدولة كسلطة على الصراعات الداخلية وعلى حدودها.
والعولمة أصبحت واقعاً بالفعل وإن أغلقنا جميع المنافذ فستدخل علينا العولمة من ثقب الباب، ويرى البعض أن نجاح العولمة هو الشيء الوحيد الأكثر سوءاً من فشلها وبأنها صورة جديدة للإمبريالية الاستعمارية، لهيمنة الدول الأقوى على الدول الأضعف من خلال سيطرة الشركات المتعددة الجنسيات على الاقتصاديات الوطنية والمحلية لتلك الدول، ومن أكبر سلبيات ذلك هو مضاعفة ثراء الأثرياء مقابل مضاعفة فقر الفقراء..، إلى جانب تهديد الهوية الأضعف وتهديد ثقافة الآخر وفرض مفاهيم وقيم يحددها الأقوى تفرض علينا وتنفذ إلينا دون استئذان (للسيطرة على الدول والشعوب).. إلى آخره من المخاوف والسلبيات التي يعرفها الجميع، يقول الدكتور (الكسندر إيفانوف) الباحث في العلاقات الدولية بموسكو، في مقال له نشر في ابريل 1997م بمجلة الحرس الوطني السعودية بعنوان (العالم الإسلامي والنظام العالمي الجديد.. وجهة نظر روسية) بأن منطقة الشرق الأوسط ببعدها العربي والإسلامي تدفع أفدح ضريبة تاريخية حين تحولت إلى ما يشبه الريف المحيط بالمدينة، أما المدينة فهي الولايات المتحدة الأمريكية التي يمدها الريف العربي الإسلامي في منطقة الشرق الأوسط بالمواد الخام وسواعده الكادحة والمدينة تأخذ من الريف ما هي بحاجة إليه وما هي ليست بحاجة إليه والريف يقتنع بما تجود به عليه المدينة سواء سد حاجته أم لا.. ويحذر الباحث من ذلك موضحاً بأن هناك حالة من الوعي الجديد تعيشها الشعوب العربية الآن نتيجة الإحباط وخيبة الأمل وعلى النظام العالمي الجديد أن يتقي مخاطر الظلم الذي يمارسه على تلك الدول وتلك الشعوب والذي سيؤدي إلى حالة من الانفجار.. سيكون لها تبعاتها الخطيرة على من أشعلوها..).
والعالم والشعوب باتت رهينة تلك الهيمنة التي توزع بركاتها أو لعناتها.. على من تشاء أينما تشاء.. ووقتما تشاء فما زال العالم يذكر الاحتجاجات والتظاهرات التي اندلعت بعنف ضد قمة الدول الصناعية الكبرى في (جنوة) بإيطاليا عام 2001م والتي شهدت أول صريع للعولمة الشاب الإيطالي (كارلو جيلياني)، ومازال العالم يتذكر الكلمة التي ألقاها (بابا الفاتيكان) البابا يوحنا بولس الثاني مناشداً قمة جنوة (بضرورة التخلي عن أنانيات التجارة وعن مبادئها المتوشحة) فالشعوب التي خرجت للتنديد وللتظاهر كان يتملكهم الشعور بعدم الثقة وفقدان المصداقية بالدول الكبرى وللتصدي للمشكلات الإنسانية الملحة مثل مشكلات السلام والفقر والبطالة ومشكلات البيئة والمرض والتي تتجلى في موقف الولايات المتحدة الأمريكية الرافض للتصديق على معاهدة (كيوتو) من أجل حماية البيئة، لإصرارها على المضي قُدماً في برامج (عسكرة الفضاء والدرع الصاروخية).
يذكرني حال النخب الفكرية في عالمنا العربي في الوقت الحالي إزاء قضايا العولمة، بما كانت عليه النخب الفكرية في النصف الأول من القرن العشرين، عندما سادت في أوساط المفكرين العرب آنذاك نظرية رمادية لكنها أثارت ضجة كبيرة آنذاك.. مفادها (أن الحضارة كائن عضوي واحد متكامل وأنها كل لا يتجزأ، وأنه عندما نأخذ جزءاً أو نستعين بجانب منها فسرعان ما سيستدعي ويجذب سائر الأجزاء الأخرى إليه).. وانقسم المفكرون العرب بين الاستيراد الكامل أو الرفض الكامل بين (التغريبيين) و(الأصوليين المتشددين).. فكان التغريبيون يقولون (علينا أن نأخذ الحضارة الغربية كلها لأنها كل لا يتجزأ.. ويدعون إلى حتمية نقل الحضارات بصورة كاملة).. ومن أبرز من كان يمثل ذلك التيار في ذلك الوقت الدكتور طه حسين والذي تجلى في كتابه الشهير والمثير للجدل (مستقبل الثقافة في مصر) الذي صدر عام 1938م والذي ذكر فيه بضرورة اقتباس الحضارة الأوربية الحديثة بشكل متكامل.. بخيرها وشرها.. بحلوها ومرها..) مؤكداً بذلك تبنيه للفرضية القائلة بأن الحضارة كائن عضوي واحد وكل لا يتجزأ وأنه لا يمكن أخذ الحلو منها وترك المر وأنه من أجل حلوها علينا تقبل مرها.
أما (الأصوليون المتشددون) كانوا رافضين للحداثة الإنسانية جملة وتفصيلاً، ويدعون إلى (رفض الحضارة الغربية كلها، حتى ما بدا مفيداً منها.. لأنهم كانوا يرون أيضاً بأن الحضارة كل لا يتجزأ.. فلا يقبلون مرها من أجل حلوها ولا يقبلون شرها من أجل خيرها..).
وهذا يعني حتمية نقل الحضارات بصورة كاملة.. أو رفضها بصورة كاملة، ومع عدم منطقية تلك النظرية وعدم حتمية تلك الفرضية كان أصحابها يرون إذا أخذنا تطوراً تكنولوجياً أو علمياً من حضارة ما فعلينا أن نأخذ ما حولها من نظريات اجتماعية وأخلاقية وكونية.
ولكن تجارب الأمم الشرقية مع الحضارة الحديثة في اليابان وفي الصين وفي الهند تثبت خطأ نظرية الاستيراد الكامل وتدحض حتميتها وتقدم أدلة وبراهين كل يوم على إمكانية الانتقاء من الحضارة الغربية وكذلك إمكانية تطبيق ذلك على العولمة.
إن الحضارة (كائن عضوي واحد في موطنها الأصلي فقط) فعلى سبيل المثال، إن الحضارة العربية الإسلامية كائن عضوي واحد في موطنها العربي الإسلامي، والحضارة العربية الإسلامية أيضاً كانت منفتحة على الحضارة الفارسية والإغريقية والهندية وتأثرت بهم لكن ظلت متمسكة بعقائدها وثوابتها الإسلامية وعندما نقلت الحضارات الأخرى الكثير من منجزات حضارتنا الإسلامية وخاصة الحضارة الغربية، لم تأخذ كل ما لدينا من عقائد وتراث وثقافة وفكر، بالرغم من أنها أخذت عن فلسفاتنا والتفكير الفلسفي العقلاني للكثير من الفلاسفة الإسلاميين الكثر أمثال (ابن رشد) و(ابن سينا) و(الفارابي) وغيرهم حتى ظلت فلسفات ابن سينا المرجع الأول لكافة الجامعات الكاثوليكية إلى يومنا هذا.. كما أخذت الحضارة الغربية عن الحضارة الإسلامية المنهج التجريبي والدستور العلمي الحسي والعلوم الفلكية وآلات الأرصاد وحساب المثلثات والجبر والهندسة والميكانيكا والإيدروستاتيك (علم موازنة السوائل) والكيمياء ومحاليلها الشهيرة وعلم تحضير الأدوية العلاجية واستخراج المعادن، واستخدام الحقن تحت الجلد ولذلك ظلت كتب علماء المسلمين في الطب هي المرجع الأول في كليات الطب في أوروبا حتى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي.
والحضارة اليونانية كانت حضارة واحدة متكاملة في موطنها اليونان، لكن عندما اقتبست منها الشعوب والحضارات لم تأخذها كلها، والحضارة الرومانية التي تتلمذت على اليونان لم تكن نسخة طبق الأصل عنهم، كما لم تكن الثقافة اليابانية التي تتلمذت على الصين نسخة مطابقة لها.
وعندما نأخذ من الحضارة الغربية نحن لسنا مجبرين على أخذ المعتقدات أو النظريات والأيديولوجيات الغربية كلها فنقبل بنظرية (داروين) للنشوء والارتقاء مثلاً، أو نقبل بأيديولوجيات، الفاشية أو الماركسية أو النازية.. أو ما إلى ذلك من أمور مرفوضة لدينا!!
فلا بد من اعتماد نهج الاختيار الناقد الحر من الرصيد الحضاري الإنساني المعاصر كله والانعتاق من نظرية التغريب الكلي أو الرفض الكلي للحداثة فالمرونة والانفتاح مبدآن حضاريان إسلاميان قامت عليهما أعظم الحضارات، الحضارة العربية الإسلامية ولم تنغلق ولم تنعزل يوماً عن حضارات العالم التي سبقتها بل أخذت الكثير وطوعت ذلك ضمن قيمها وثوابتها الدينية الإسلامية العظيمة، ولنكن أكثر مرونة وانفتاحاً مع العولمة ومع جميع القضايا التي تواجهنا، مستعينين بتراثنا الثقافي والفكري ومتمسكين بقيمنا الحضارية وبثوابتنا الدينية الإسلامية.
( * ) عضو الجمعية السعودية للإعلام والاتصال فاكس: 6066701 - 02 ص. ب 4584 جدة 21421
|