سبحان محوّل الأحوال، ومقدِّر الآماد والآجال، سبحان الذي يُمضي حكمَه، ويُجري قضاءه، ويقومُ عدله في خلقه بما شاء وكيف شاء، سبحان الله العظيم، الحي القيوم، الذي يجري للناس في الحياة المواعظ والعبر لعلهم يرشدون.
حينما رأيت تلك التماثيل التي تهاوت بعد سقوط بغداد في يد الاحتلال قبل شهور ردَّدت في يقين: سبحانك يا من لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء، وقلت في نفسي: كم كانت قلوب ضحايا حلبجة وغيرها ستْسعد برؤية تلك التماثيل التي تتهاوى، وحينما رأيت صاحب تلك التماثيل التي تهاوت في قبضة جنود الاحتلال، يبدو عليه من الذلِّ ما يعجز عنه الوصف، قلت: سبحانك يا من لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء، ولاحت بذهني صور تاريخية جرت أمامي كما يجري شريط مسجل على شاشة تلفاز.
ذو نواس ملك من حمير من ملوك اليمن، قويتْ شوكته، وعزَّ ملكه، وكان معتنقاً للديانة اليهودية، فلما أحسَّ بقوَّته تاقت نفسه الأمَّارة بالسوء إلى التسلُّط والجبروت، فانطلق إلى نجران، واستولى عليها، وقبض على أهلها المؤمنين من النصارى، وجار عليهم وقسا، وساومهم على ترك دينهم واعتناق دينه فلما أبوا حفر لهم الخنادق وخَدَّ لهم الأَخاديد وأَمر بإشعال النار فيها، ثم جاء بالناس، وعلى النار وهي تلتهب أَوْقفهم، فمن بدَّل دينه عفا عنه، ومن ثبت على دينه أمر بإلقائه في النار دون هوادةٍ ورحمة، ثم أسر من الرجال وسبى من النساء وعاد إلى عاصمة ملكة في اليمن «أَزال» وهي المدينة التي سمِّيت فيما بعد صنعاء بعد أن ملكها أَرياط الحبشي، وقبل وصوله إلى عاصمته تمكَّن أحد الأسرى من نصارى نجران من الهرب، واسمه «دَوْسُ ثَعلُبان»، فاتجه إلى قيصر ملك الروم واستنصره على ذي نواس الذي قتل وأحرق المؤمنين من نصارى نجران، فبعث به قيصر إلى ملك الحبشة وكان على النصرانية وطلب منه أن يبعث مع الرجل جيشاً لمعاقبة ذي نواس على ظلمه بأهل ملّته، وكوَّن ملك الحبشة جيشاً بقيادة أرياط وكان من بين قوّاده «أبرهة صاحب الفيل»، وفي اليمن عاقب الله سبحانه وتعالى ذا نواس على ظلمه بجيش الحبشة حيث هزمه أرياط شرَّ هزيمة، فأطلق ذو نواس لفرسه العنان في اتجاه البحر حيث دخل بين أمواجه فكان آخر العهد به، وتولَّى أرياط الحبشي ملك اليمن بلاد الغنى والثراء فما لبث أن بطر بالنعمة وبدأ يظلم الضعفاء من الناس، ولا يرعى حال الفقراء، وقرَّب إليه الأغنياء والوجهاء دون مراعاة لمشاعر عامة الناس، وانتشر ظلمه وطغيانه، فكوَّن أبرهة أحد قوَّاده فرقاً من عامة الناس، وأعلن الحرب على أرياط في قصةٍ طويلةٍ - لا يتسع المجال هنا لسردها - وكانت النهاية بعد صراعٍ ومصاولة هزيمة نكراء لأرياط حيث قتل، وتولى الملك من بعده أبرهة الذي لُقِّب بالأَشرم بسبب جرحٍ أصاب وجهه في مبارزته لأرياط.
وما هي إلا فترة وجيزة حتى بطر أبرهة بالنعمة، وأسكره ملكه وقوتُه فمال إلى الظلم، والاستبداد ناسياً، ما كان من أَرياط، غافلاً عن نهايته، وبلغ به الأمر مبلغه الخطير حيث تجاوز حدوده، وغَزَا مكة المكرمة بجيشه المعروف بجيش الفيل، وكان هدفه أنْ يهدم البيت الحرام، والكعبة المشرفة، ويحمل الحجر الأسود إلى اليمن ليجبر الناس على الحج إلى صنعاء بدل مكة المكرمة، ولم ينفع نصح الناصحين هذا الملك الحبشي الذي طغى واستكبر، وكانت نهايته عبرة للمعتبرين حيث قصم الله جبروته، وهزم جيشه «وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارةٍ من سجيل فجعلهم كعصفٍ مأكول».
وتولَّى بعده ابنه يكسون، ولما قتل تولَّى ابنه مسروق، ثم كان استنجادُ سيف بن ذيَ يزَن بكسرى الملك الفارسي بواسطة النعمان بن المنذر، حيث ذهب إليه وطلب منه تخليص اليمن من الحبشة الذين ساموا الناس سوء العذاب، وبعث كسرى معه بجيشٍ، قوامه من كان في سجون فارس من المجرمين وأصحاب الجنايات، بقيادة «وهرز»، وتمَّ للجيش الفارسي بمعاونة سيف بن ذي يزن وأهل اليمن الانتصار على مسروق بن أَبرهة، وأقيمت مملكة يمنية عربية من جديد وكان سيف بن ذي يزن هو الملك وما إنْ استقر له الملك واستقام له الأمر حتى جنح إلى الظلم، فأخذ يقتل من في اليمن من أهل الحبشة، ويعذبهم ويسخر نساءهم للخدمة، وما زال بهم حتى أفنى بالقتل أكثرهم، وأبقى عدداً من رجالهم خدماً له، فما كان من هؤلاء الخدم إلا أن اغتنموا إحدى غفلات سيف بن ذي يزن فقتلوه شرَّ قتلة.
سلسلة من المواقف والأحداث توحي بنهاية الظالمين مهما كانت قوتهم، وها نحن نرى رأي العين الرئيس العراقي المنهزم، حيث تعرض علينا شاشات التلفاز صورة أيام العنجهية والتسلط، والنظرة الفوقية إلى الناس، ثم تعرض صورته أسيراً ضعيفاً لا حيلة له، وكانت مشكلته الكبرى تتمثل في عدم العدل، وعدم الخوف من الله سبحانه وتعالى، مما جعله ضحية الغفلة عن نهاية المطاف، ولو أنه فكر قبل مذبحة حلبجة، أو غيرها من المواقف الظالمة، في نهاية الظالمين على مرِّ الأزمان، ولو أنه راجع نفسه، وقدَّم العدل والإنصاف على الظلم والإجحاف، لما انضمّ إلى هذه السلسلة السوداء.
ظالم يزول على يد مثله، ويبقى نصر الله لمن آمن وأصلح وأنصف وعدل، وخاف الله عزَّ وجلَّ في حقوق عباده.
هل ستمر هذه الموعظة الكبيرة «الضخمة» دون أن تحدث أثراً ملموساً في حياة من يجنحون إلى الظلم والاسبتداد، ومصادرة حقوق العباد؟! أم أنها ستكون درساً حياً نافعاً لهم؟، خاصة أن وسائل هذا العصر جمعت لهم أطراف الصورة وزواياها المختلفة وعَرَضَتْها حيّةً أمام أعينهم؟
إن العاقل من اتَّعظ بغيره، ومن لم تنفعه المواعظ هلك.
إشارة
إني برغم الحزن لست بيائس
فالفجر من رحم الظلام سيُولَدُ |
|