«جازان» مدينة أصيلة خجولة تخاطبك في همس.. وتلامسك في رفق.. جدائلها تلامس السحاب، وأقدامها تستحم بمياه البحر.
في سهلها وفي جبلها تلمس شهامة الناس، وكرامتهم، هكذا يكون خطابهم السخي مع كل زائر:
يا ضيفنا لو زتنا لوجدتنا
نحن الضيوف وأنت رب المنزل
«جازان» المدينة أشبه بعروس حسناء تتثاءب من مرقدها، لا هي بالنائمة ولا هي بالقائمة، إنها بَيْنَ بين.. معوقات مصلحية أهلية حدَّت من طموحاتها لا دخل للدولة بها لعلها في سبيل الانحسار والتلاشي..
هذا ما لمسته بعد ركود ران عليها حقبة من دهر.. وهذا ما استشعرته من واقع المشاهدة.. لعلها بداية يقظة أوحى بها وعمل في سبيلها أميرها الشاب اليقظ المتحفز محمد بن ناصر بن عبدالعزيز الذي يحمل هماً لاستعادة ما فات.. وتعويضاً لما انقضى ومضى.. وهو الجدير على تحقيق الحلم.
البدايات.. واجهات بحرية.. وطرق تُعَبَّدُ وترصف.. وبعض ملامح لحركة معمارية توحي بأن دم الحياة بدأ يجري في العروق ولا أقول في الشرايين.. والشرايين هنا أعني بها ميناء جازان الكبير الذي يغط في سباته بعد أن فقد أهم مقومات حياته.. الاستيراد.. والتصدير.. لا أعرف سبباً مقنعاً لشل حركة ميناء ضخم كلف خزانة الدولة مئات الملايين وأكثر ثم يحال إلى التقاعد أو ما يشبه التقاعد وهو في عِّز شبابه.
قيل لي إن منطقة عسير، وربما نجران تستورد بضائعها من جدة.. هل هذا معقول في وقت يتواجد فيه ميناء متكامل بمعداته وأجهزته كفيل بأن يغطي بخدماته المنطقة الجنوبية من بلادنا الغالية.
هذا عن جازان المدينة.. ماذا عن جازان الأرياف.. والجبال..؟!
من الصعب أن تمنحك بضع ساعات ما تشتهي.. ولكنها رغبة أخوين كريمين غاليين على قلبي.. حجاب الحازمي وأحمد البهكلي، مدير النادي الأدبي ونائبه اللذين أحسنا فيّ، وفي شعري ظناً فكرَّماني بدعوتهما لإحياء أمسية شعرية سعدت بها.. وأسعدني أكثر أن يكون الحضور لها من فئة الشباب الذين لم تستلبهم الحداثة ومتغيرات الثقافة شيئاً من ثوابتهم الفكرية الأصيلة.
أعود إلى رحلة الساعات الخمس.. حيث السهل أولاً.. وحيث الجبل أخيراً.. السهل خصب وممتع.. البلدات والقرى متكاثرة متناثرة.. تزداد اتساعاً حتى ليكاد يخيل إليك أن أعواماً قادمة ستشكل منها مدينة جازان كبرى كما هي الحال في مناطق مملكتنا الواسعة.. البناء الحديث يتعايش مع البناء القديم.. وإن كانت الغلبة للجديد.. مشاهد أوحى بها الممر إلى الجبل ذهاباً وأوبة ليس إلا.. أما الجبل الشاهق فحكايته حكاية..
«من لم يزر جبال جازان.. ما زار جازن..»
الطريق إلى الجبل يتدرج.. ويتعرج.. يأخذك ذات اليمين.. ثم يلوي بك ذات الشمال.. وبقدر صعودك تزدان الجبال وتزداد خضرة ونماء.
مدرجات الشعير.. حقول المانجا، والموز، ومحاصيل أخرى تكاد تلامسها يداك، وأنت تعبر الدرب الضيق المتعرج الخطر غير المُعبد.. القرى، والبيوتات مزروعة في سفح الجبل، وفي صدره.. وفي هامته وقمة رأسه شق لها أهلها طرقهم منحوتة بين الصخر.. لم أصدق عيني وأنا أشاهد حركة معمار تتفوق على مثيلها في السفح.. عمائر من أدوار متعددة.. وطرز من الفن المعماري قد لا يتوفر له مثيل داخل المدن.
قيل لي إنها الإمكانات المادية الضخمة لكبار المزارعين الذين يعنون بزراعة «القت اليمني» أظنه مفهوماً لا يحتاج إلى إيضاح أكثر.
من هذه الزيارة الخاطفة لجبال جازان رحت أفكر وأفكر، ثم أفكر وأفكر! ثم أتساءل مع نفسي.
«كل هذا يوجد في بلادنا ولا نستثمره!»
عسير بجمالها وجبالها، الظفير بجمالها وجبالها.. جازان بجمالها وجبالها.. أين هي رؤوس الأموال المهربة إلى الخارج.؟ بل أين هي أدوات التطوير.. أين هي أدوات التشويق والترفيه المساعدة لبناء مجمعات سياحية لمواطنينا.. وللقادمين إلى بلادنا.. اذاً لأمكن لنا توفير المليارات من الزيارات.. وهو دخل يكفي لإنماء وطن وإسعاد شعب وحماية رأس مال.
لم تسعفني الزيارة الخاطفة بأكثر من هذا الذي رأيت.. قرود صغيرة على حافة الطرق الجبلية في سلام مع قطعان الماعز التي ترعى على مقربة منها..
أعود من حيث بدأت.. أثمِّن لنادي جازان الأدبي احتضانه للشباب وإصداراتهم هذا ما لمسته أثناء زيارتي لمكتبة النادي.. وهو تميز يحسب للنادي أكثر من غيره.
«جازان» كغيرها من مناطق بلادنا فيها الكثير مما يجب اكتشافه.. أو إزالة غبار الجهل أو التجاهل عنه وأحسب أنها ميسورة متى كان للمواطن الرغبة الصادقة في أن يكون وطنياً بكل ما تعنيه المواطنة من معنى.
«جازان» تسكنني أهلاً.. وجبلاً.. وسهلاً..
|