|
|
التقيت به بعد فراق دام عدة سنوات، فعرفني ولم أعرفه كان وجهه شاحباً وجسمه ناحلاً وعيناه زائغتين كأنهما تريان الموت قريباً منهما، يداه ترتجفان ورجلاه تحملانه بكل كلفة ومشقة. أقبل علي ببطء وتثاقل وكان يتلفت يمنة ويسرة، مشتت الذهن وفي خاطره من الأفكار والهواجس ما تنوء بحملها رؤوس عصبة من الرجال ذوي حلم وسعة بال. بادرته بالسلام والسؤال عن الحال رد علي بإجابات مقتضبة وسريعة كان يريد الخلاص مني بأقصى سرعة ممكنة ولكن كان هناك شيء ما يمنعه من ذلك ويبدو أنه نفس الشيء الذي دعاه للتعرف علي والحديث معي فكلما هم بالانصراف تراجع عنه وعاد يسأل ويكرر نفس أسئلته وعباراته السابقة كان يريد أن يقول شيئاً وفهمت من حاله أن ذلك الشيء خاص جداً ولم يجد إنساناً يبوح له به ويخلصه من بعض الحمل الذي في رأسه حاولت أن أظهر له أني ذلك الشخص، أريته مني ما يبعث الطمأنينة في نفسه ويدخل الراحة إلى جوفه ويزيل علامات التوتر البادية على وجهه ويخفف التشنج المسيطر على أطرافه. عندما رأى مني التفاعل والتجاوب والإصغاء بدت علامات الراحة والرضا ترتسم على محياه، ومع أنها كانت ما تزال ممزوجة بالكثير من القلق والتوتر إلا أني بادرته بالسؤال محاولاً القضاء على ما تبقى من قلق وتوتر في داخله وتخليصه منهما قبل أن يقضيا عليه، فسألته عن مجموعة من الأصدقاء وزملاء الدراسة وهل ما يزال يتواصل معهم، حاولت تذكيره بتلك الأيام وببعض المواقف الطريفة التي كانت تحدث في تلك الفترة وببعض التعليقات الساخرة منه حيث كان ماهراً في إلقاء النكات والمزاح مع الجميع وإطلاق الألقاب الساخرة عليهم دون أن ينزعجوا منه بل كانوا يتقبلون ذلك بصدور رحبة ويبادلونه الألقاب والتعليقات. بالطبع قصدت من ذلك إخراجه مما هو فيه من حياة بائسة محبطة الى حياة ملؤها الفرح والسرور كان يعيشها إلى وقت قريب حتى إنه وعندما كنت أذكره بذلك كان كمن يتذوق طعم تلك اللحظات بلسانه ويستنشق عبيرها بأنفه، وهذه الطريقة مهمة في التعامل مع تلك الفئة من الناس التي تعيش الإحباط والملل ويبدو عليها القلق فتظن أنها خلقت له، حيث يجب على من يتعامل معهم أن يذكرهم بلحظاتهم السعيدة وذكرياتهم الجميلة ليشعرهم أنهم ليسوا مخلوقين للهم والغم فقط بل إن للفرح والسرور نصيبهما في حياتهم أيضاً، وأنهما يشغلان الجانب الأكبر من حياتهم ولكن الواحد منا لا يشعر بذلك لأن أوقات الفرح تمر بسرعة فيظنها قصيرة وأوقات الحزن تمر بطيئة فيظنها طويلة. عندما رأيت أن مزاجه تغير تماماً وبوادر القلق زالت من وجهه وعلامات الرضا بدت على محياه وأحسست أني تمكنت منه وسيطرت على نفسيته، ألقيت عليه السؤال المهم الذي أجلته طويلاً وكنت أرغب في مبادرته به ولكني كنت أعلم علم اليقين أنه سوف لن يجيبني عليه بل سوف ينفر مني وينصرف ويتركني فأكون بذلك كمن صب الزيت على النار. فقلت مبتسماً ومتصنعاً الدهشة: ما الذي غير حالك؟ وقد كنت بشوشاً مرتاح البال والضحكة لا تفارق محياك، والآن أنتزع البسمة منك بالقوة! قال: أبداً لا شيء. وحاول التهرب من سؤالي فقلت له: نحن صديقان وإن ابتعد أحدنا عن الآخر لفترة من الزمن فيجب أن نبقي على صداقتنا التي بنيت على أسس من البراءة والصدق والمحبة والمودة، ويجدر بنا أن نتعاون ونتكاتف لحل كل مشكلة تواجه أياً منا فإذا لم أبث شكواي إليك وتبث شكواك إلي فلمن نبثها إذاً؟ وأردت أن ألمِّح إلى حاله ولو من بعيد لعلي أستفز مشاعره فيخبرني بما يجول في خاطره بنفسه فأكون عوناً له، لا أن أصارحه بما أسمع عنه من بعض الأصدقاء فينفر مني وينزع الثقة التي منحني، فاسترسلت قائلاً إن كل إنسان لديه مشاكله وأسراره الخاصة التي لا يريد أن يبوح بها لأحد ولكن هناك نوعية من المشاكل لا يمكن للإنسان أن يحلها لوحده وخاصة تلك التي تجول في خاطره وتتعلق بالمجتمع الذي يعيش فيه، فبعض الأشخاص يحاول تعديل كل شيء يراه بيده سواء كان بمقدوره ذلك أم لا وينتقد من يعارضه ويجهل من يخالفه بل قد يصل به الأمر الى تكفير من لا يقول بقوله لا تعجبوا من تعمقي السريع في الخوض معه في هذا الأمر حيث شجعتني بوادر الإصغاء والاهتمام التي كانت بادية على وجهه حين ذكرت له مشاكل المجتمع ومسألة تغييره. فبادرني بحماس قائلاً: إن تغيير المنكر واجب على كل مسلم لقوله صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكراً فليغيره). ثم سكت فقلت له: ولما لا تكمل الحديث فقال أنا يهمني الأمر بإزالة المنكر أما الكيفية فنحن من يحددها، ولا تنس أن الله سبحانه وتعالى يقول: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } قلت له: قبل أن نذهب عن هذه الآية الكريمة هل تأملتها وفهمتها كما يجب؟ قال: بالتأكيد. فقلت: وماذا فهمت منها؟ قال: فهمت أنه يتوجب على كل مسلم ينتسب لهذه الأمة أن يغير كل ما يراه من منكرات. فسألته: |
[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة] |