تقوم المكتبات - على اختلاف أنواعها- بدور معرفي مهم في عصرنا الراهن؛ كونها تقدّم خدمات نوعية متميزة للباحثين وطلاب العلم، تساعد على التدارس والتباحث، وتسهم في تطور البحث والمراجعة، وتكشف عن مكنونات اللغة والآداب والعلوم والمعارف كافة، وباعتبارها أيضاً الذاكرة الوطنية التي تحفظ النتاج الثقافي الذي تصدره الأمّة من كتب ودوريات ووسائل معرفية..، وهي تقوم بهذا الأداء المبهر؛ إنما تسهم بدور تاريخي، تحفظ للأمّة وجهها الثقافي، وهويتها الخاصة..
وتعد مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بالرياض، تجربة معلوماتية نموذجية في الواقع العربي الحديث؛ فهي ترجمة حقيقية للأهداف الكريمة السامية التي يرغب صاحب السمو السموالملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء، رئيس الحرس الوطني، والرئيس الأعلى لمجلس إدارتها - في تحقيقها وما ينبغي أن تكون عليه حاضراً ومستقبلاً..؛ فهي تشرف بحمل معاني حرص سموه الكريم على تأكيدها وترسيخها؛ لتكون المكتبة أنموذجاً؛ ومنارة علمية تُعنى بإعداد الدراسات والبحوث العلمية والتحليلية لمختلف القضايا المتعلقة بالمملكة العربية السعودية ومنطقة الخليج العربي بشكل خاص كما تهتم بالقضايا والمستجدات الراهنة على الساحتين العربية والعالمية بشكل عام.
ونحن اليوم نحتفي بالمهرجان الوطني التاسع عشر للتراث والثقافة(الجنادرية) تتفاعل مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، برؤى جديدة وتقيم معرض (الأرض من السماء)، للفنان الفرنسي العالمي (يان ارتوس برتران)، الذي يأتي في إطار تواصلها الحضاري مع تنمية الأرض وإعمارها باعتبارها نعمة إلهية تستحق الشكر؛ حيث عهد المولى - عزّ وجلّ - إلى الإنسان بإعمارها والعمل والكدح والسعي فيها؛ فقد جعلها مهاداً ووضع له فيها رواسي وأوتاداً وسخّر له الشمس والقمر والجبال والريح والأنهار، والسحاب والطير والفلك، وكل ما في الأرض لصالحه..؛ لتنفيذ مشروعه التنموي؛ حيث عدّ الإسلام سعي الإنسان وعمله في الأرض فلاحةً وحرثاً وحصداً وزرعاً وتعديناً، وعمراناً أمراً يؤجر عليه..، قال تعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}؛ غير أن الهدف الذي يرمي إليه القرآن أبعد من ذلك، ومن دونه لا تكون معارف الإنسان ذات قيمة حقيقية ألا وهو تعريفه بربّه جلّ وعلا؛ لأنه لوتفكّر ملياً لعرف أن توفير الأرض للإنسان وتسخيرها آية من آياته عزّ وجلّ..
فقد طاف يان آرتوس في مشارق الارض ومغاربها؛ ليقدّم لنا قراءة بعين الكاميرا لكتاب الطبيعة الذي حوّله إلى مجاز كبير وعميق لرسالته التي يمثل الإنسان مركزها وغايتها؛ حيث يقول لنا ببساطة: انظروا كم هو جميل هذا الكون! وكم هي رائعة أرض الانسان!
ومن خلال لوحاته الفنية؛ يكشف بدقة عن مصادر هذا الغنى والثراء بتسليطه الكاميرا على مصادر المياه وينابيعها والمرابع الخضراء والجبال والسهول والوديان ويصور لنا عظمة الخالق سبحانه وتعالى الذي سخّر هذا الكون للإنسان الذي بدوره يحول هذه العطايا إلى خير عميم مثلما يصور في المقابل كيف يسهم هذا الإنسان نفسه في تدمير هذه الثروات بسوء الاستغلال الذي يحرم الأجيال المقبلة من استحقاقها في هذا الخير والجمال! وينقلك «يان ارتوس» ومن زاوية سماوية تتطلع إلى الأرض بحنان الأم، ينقلك وبالصور إلى مواقع مختلفة من العالم الأرضي الذي يموج بحركة الإنسان والطبيعة، من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.
وختاماً، يسرني أن أتقدم بالشكر الجزيل إلى كل من الشركة التعاونية للتأمين؛ لدعمها فعاليات المعرض وإلى صحيفة (الجزيرة) الراعي الإعلامي للمعرض وكذا صحيفة اللوموند الفرنسية وكلَّ من أسهم في إقامة هذا المعرض التربوي والبيئي والثقافي التاريخي، الذي يقام لأول مرة في المملكة العربية السعودية، كل تحية وتقدير.
( * ) المستشار في ديوان سمو ولي العهد
المشرف العام على مكتبة الملك عبدالعزيز العامة |