مع إعلان الميزانية الجديدة للعام القادم 2004م 230 بليون ريال وما تحمله التوقعات من تفاؤل بالميزانية الفعلية للسنة الماضية 2003م التي بلغت 295 بليون ريال والميزانية التقديرية للسنة القادمة 2004م من تحسن في الإيرادات وتقلص في العجوزات المالية فقد عدت بالذاكرة إلى بداية عملي الحكومي بالميزانية العامة بوزارة المالية والاقتصاد الوطني قبل أكثر من عقدين من الزمان لأجد أن ما سبق أن طرح من أفكار لتطوير الميزانية العامة لا يزال حبيس الأدراج الحكومية وأخص بالذكر الندوة التي عقدت بمعهد الإدارة العامة والتي خصصت لهذا الموضوع وهو تطوير الميزانية العامة بتاريخ 7 - 9/4/1397هـ والتي شاركت فيها بورقة بعنوان «الميزانية العامة في المملكة واقعها وامكانية تطويرها» تم نقاشها في الندوة وأخذت توصيات حيال التطوير ولكن للأسف وحتى الآن يتم الحديث والنقاش ولم نر تغييراً لأسلوب إعداد وتنفيذ الميزانية العامة واعتماد ميزانية تنموية غير ميزانية الفصول والأبواب والبنود الحالية التي تساهم في الجمود وعدم النمو الاقتصادي وما نتج عنه من تدني مستوى المعيشة وتدهور البنية التحتية وازدياد البطالة وغيرها من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية فلا يجوز أن يكون معدل النمو السكاني في المملكة أكثر من 7 ،3% سنوياً بينما نقبل بنمو اقتصادي لم يتجاوز نسبة 1% سنوياً كما تحقق فعلياً خلال خطط التنمية الخامسة والسادسة ولا يجوز أن تحدد خطة التنمية السابعة معدل النمو المستهدف بحوالي 3% بينما يجب ألا يقل طموحها عن 6% سنوياً حتى يكون هناك نمو حقيقي يتجاوز نسبة النمو السكاني وإلا فإن المعادلة ستكون كارثية، ولأن الفرق بين نسبة نمو السكان ونسبة النمو الاقتصادي ستكون مساوية لنسبة التدني في مستوى المعيشة أي لو افترضنا أن نسبة النمو الاقتصادي ستظل 1% كما حصل في معدل النمو المتحقق في الخطط الثلاث السابقة ونسبة نمو السكان 7 ،2% ونسبة النمو المطلوبة 6% فإننا سوف نفقد سنوياً 5% من مستوى المعيشة والحاجة لا تزال قائمة لتطوير الميزانية العامة للدولة لأن الميزانية العامة هي من الأدوات التي تحرك بها الدولة الاقتصاد وتوجه مسيرة النمو وهي ضمن أدوات السياسة المالية ومثلها أدوات السياسة النقدية الخاصة بزيادة السيولة وتوفر الاعتمادات في البنوك وخفض أو رفع كلفة الاقتراض «والتي لن أتطرق لها هنا لأنني سبق أن كتبت عنها بالتفصيل بجريدة الوطن 20/1/1422هـ» والميزانية العامة وكما ذكرت بالتفصيل في بحثي عام 1397هـ الذي لا يزال قائماً يمكن أن تحفز الاقتصاد أو تكبح جماحه، وأسلوب إعداد وتنفيذ الميزانيات يختلف من دولة لأخرى وله دور كبير في الأداء الاقتصادي فهناك عدة أساليب وطرق تطورت على مر السنين لتلك الأدوات المختلفة وميزانية المملكة العربية السعودية اعتمدت الأسلوب المعروف بميزانية الفصول والأبواب والبنود Item Line Budgeting والذي تم اعتماده في بداية تأسيس المملكة ونظامها الإداري وهي مقتبسة مما كان مطبقاً في دول نامية أخرى أخذته بالتالي من الدول الغربية الاستعمارية التي كانت تدير شؤونها في الحقبة التي سبقت الحرب العالمية الثانية ومن المعروف أن تلك القوى الاستعمارية كان هدفها الحد من الإنفاق في تلك المستعمرات من قبل الدول المستعمرة وتقنين الصرف في أضيق الحدود ولم يكن الهدف التنموي هو الأولوية لتلك الإدارات المحلية التي كان يسيطر عليها الأجنبي ودولته وهدفها تعظيم إيراداتها المحلية من تلك المناطق وصرف أقل ما يمكن على تلك الشعوب المغلوبة على أمرها، فأصبح التدقيق في الصرف وأشغال الإدارات المحلية وتكبيلها بالروتين والبيروقراطية عن طريق تطوير واعتماد أنظمة وأساليب محاسبية هدفها ضبط الإنفاق وتقنينه والحد منه هو الشغل الشاغل بالإضافة إلى السعي للتقليل من قوة ومنافسة الاقتصاد المحلي والصناعات المحلية للاقتصاد والصناعات في الدولة الاستعمارية بل أحياناً عرقلة جهود التطوير وعدم تشجيع النمو مثل ما حصل في الهند عندما قامت بريطانيا بنقل صناعة النسيج من الهند إلى بريطانيا للحد من تطوير تلك الصناعة حتى لا تنافس صناعة النسيج في ليفربول وغيرها من المراكز الغربية.
وحتى نعود للموضوع الأساسي عن الميزانية العامة في المملكة فإن اعتماد أسلوب إعداد وتنفيذ ميزانيات النمو لم يكن وارداً في تلك الأنظمة المقتبسة ولكن بعد الاستقلال قامت عدة دول نامية بتطوير أنواع وأساليب جديدة تحدثت عنها أول مرة في ندوة معهد الإدارة العامة لتطوير أسلوب الميزانية العامة للدولة من ميزانية أبواب وبنود إلى ميزانية البرامج والمشاريع أي ما يسمى ميزانية التخطيط والبرامج Planning and Programming Budgeting (PPB) أو ميزانية الأداء Performance Budget وغيرها من الأساليب ومزاياها ومساوئها ولن أثقل على القارئ الكريم بتفاصيلها التي يمكن الحصول عليها من معهد الإدارة العامة وقد نشرت الورقة في جريدة الجزيرة الغراء بعد ذلك وفي مقال لي بنفس الأسبوع.
وقد دفعني للمساهمة في تلك الندوة الرغبة في تطوير الميزانية العامة التي بدأت حياتي العملية موظفاً بها ومتحمساً ليكون من أهدافها الكبرى والأساسية دعم النمو الاقتصادي والاجتماعي وإحداث نقلة نوعية في مسيرة الاقتصاد السعودي ليكون نموه بوتيرة عالية تزيد من قوته وترسخ أساساته على مستوى متنام وبنسب مئوية تزيد من مستويات الدخل وترفع مستوى المعيشة وتزيد من فرص العمل وتستوعب الأعداد المتزايدة من العمالة السنوية الناتجة من نمو السكان بحيث يكون مستوى النمو أعلى من معدل زيادة السكان وأن تكون الميزانية العامة مبنية على أسس اقتصادية تنموية تأخذ في الاعتبار تناغم وتعاضد السياسة المالية مع السياسة النقدية ولأن من مساوئ ميزانية الأبواب والبنود عدم اعتماد المبالغ بنظرة اقتصادية والاعتماد على المحاسبين والمحاسبة أكثر من الاقتصاديين بحيث إنه من الممكن أن يعتمد مشروع متكامل على شكل أجزاء وبنود يكون بعضها في باب وبعضها الآخر في باب منفصل وليس بشكل مترابط وينتج عنه أحياناً أن عدم اعتماد جزئية بسيطة ربما يعيق تنفيذ المشروع بكامله لعدة سنوات وقد تقضي عليه تماما وتحرم الاقتصاد من منافع المشروع والبناء عليها وعدم استخدام المبالغ المجمدة فيه في مجالات واستعمالات أجدى وأنفع وفي مشروع آخر أو برنامج مختلف والأمثلة كثيرة في كثير من البلدان النامية مما يسمى بمشاريع الأفيال البيضاء إلى المشاريع المجمدة.
وتتكون ميزانية الفصول والأبواب والبنود المعتمدة في المملكة كما هو معروف من أربعة أجزاء الباب الأول يخص الرواتب والمكافآت والباب الثاني يخص النفقات المتكررة مثل الأجهزة المكتبية والأثاث وبعض النفقات الأخرى أما الباب الثالث فهو للإعانات والصيانة والتشغيل والإيجار وبعض المعدات ويختص الباب الرابع للمشاريع الرأسمالية ويحدث أن يعتمد مشروع مستشفى بالباب الرابع ولا يعتمد له موظفون أو أطباء لأنها في الباب الأول الذي لم يناقش بشكل متكامل أو تم نقاشه من قبل لجنة أخرى لها أولويات مختلفة وتحتاج لوظائف إدارية مختلفة أو أن يعتمد كل شيء ما عدا ملكية الأرض.. الخ من الاحتمالات بينما ميزانيات التخطيط أو ميزانيات البرامج والمشاريع تعتمد المشروع متكاملاً كوحدة متكاملة وينفذ ويستفاد منه في وقت محدد ويكون له ترابط مع المشاريع الأخرى مدروسة ومحددة سلفاً وقد يبنى عليه مشاريع جديدة تصبح جدواها أكبر بعد تنفيذ المشروع.
إن علينا ألا ننتظر كثيراً في تطوير الميزانية العامة والسياسة المالية والنقدية بشكل عام بل علينا الإسراع في إعادة تقويم احتياجاتنا الاقتصادية وتقويم أنظمتنا باستمرار لأن الثمن الذي سندفعه إذا انتظرنا سيكون مؤلماً وقد لا نستطيع أن نلحق بركب الاقتصاد العالمي ونتخلف عن المسيرة المتنامية للتجارة الدولية ومكاسب العولمة فقد أصبح الاقتصاد السعودي يتراجع من سنة لأخرى بالنسبة للآخرين ولأن الاقتصاد لا بد أن ينمو باستمرار حتى يحافظ فقط على مكانته ولأن الحياة نسبية فسوف نرى أننا نتراجع باستمرار وبدون أن نشعر بذلك ما لم يتم تفعيل النمو الاقتصادي السعودي ورفع معدله وتقويم مسيرته بانتظام ومنها تقويم أسس إعداد وتنفيذ الميزانية لتبنى على أسس تدعم التنمية الاقتصادية وتزيد من فرص الاستثمار والعمالة وتسعى لتكامل المشاريع والاستغلال الأمثل للموارد المالية والاقتصادية مع التسليم بأن الأنظمة لا تكفي ولابد من حسن تطبيقها وألا نصدر نظاماً متطوراً من قبل السلطات العليا ليلغيه موظف بسيط لأن اللائحة التنفيذية له ليست واضحة بما فيه الكفاية أو أنها تركت غموضاً يمكن استغلاله من ضعاف النفوس بشكل يعطل ويقوض الفرص الاستثمارية ولأن التنمية شاملة وتأخذ عدة جوانب لا بد من معالجتها سوياً وبشكل متكامل والميزانية العامة مثلها مثل المشاريع والبرامج يجب أن يغلب عليها الطابع الشمولي لتؤتي ثمارها من خلال ميزانية التخطيط والبرامج وليس ميزانية الأبواب والبنود التي تدرس وتناقش بالتركيز على التفاصيل المحاسبية لها بدون النظر للهدف الأكبر والأهم وهو التنمية الاقتصادية والاجتماعية وترابط المشاريع وتكاملها لتكون استثماراً منتجاً يزيد في قوة الاقتصاد ومعدلات النمو ويرفع مستوى المعيشة باستمرار.
والله الموفق،،
* عضو مجلس الشورى |