قال لي صاحبي: كنت في مجلس من هذه المجالس التي يلتقي فيها الناس على ولائم المناسبات وكان المدعوون مختلفي المستويات الاجتماعية والأعمار، وقد جلس في صدر المجلس رجلٌ كبير السنّ يقارب عمره التسعين ولكنه كان متماسك الجسم، حاضر الذهن، وإن كان بصره قد ضعُف قليلاً، فما يتبين وجوه الأشخاص إلا إذا اقتربوا منه، وجرى المجلس في مسارب الأحاديث المتنوِّعة، وأدلى كل جالس بما لديه، فالكل في مثل هذا المجلس يتحدث، والكل يجيب، والكل يرى في نفسه القدرة على المشاركة في أي موضوع يطرح، وما الذي يمنع من ذلك ما دام الحديث في هذه المجالس لا يخضع لحساب نقد أو توجيه، وما دامت هذه الأحاديث تسلِّي الجالسين حتى يدعوهم صاحب الوليمة إلى الطعام، فينفرون من مجلسهم بسرعة تدلُّك على أنهم كانوا ينتظرون هذه الدعوة بفارغ الصبر.
المهم أنني كنت في ذلك المجلس أتابع تلك الأحاديث، والتفت إلى ذلك الرجل المسنّ الذي يجلس في صدر المجلس وهو - أبو صاحب الدار - يتلفَّت يمنةً ويسرة، ويشعر بأن بينه وبين أحاديث الجالسين حواجز السنوات الطوال، وضعف الشيخوخة واختلاف الزمن، وتنوّع الثقافات، وما الذي يفهمه ذلك الشيخ الكبير من أنواع السيارات وألوانها وشياتها وصناعاتها، وما الذي يدركه من برامج «الحاسب الآلي» ومواقع الشبكة العنكبوتية العجيبة، وما الذي يعنيه من أخبار المباني الحديثة، وشركات العقار الضخمة، والحدائق والاستراحات والمتنزهات، وصالات الألعاب والأعراس؟؟
كل ذلك لا يعنيه إلا بقدر ما يمكن أن يجعله على صلةٍ بالناس من حوله، ورأيت ذلك الشيخ يغمض عينيه مستسلماً لإغفاءة سريعة، وشعرت بتقصير هذا المجلس معه، فقد كان جالساً كالغريب مع الجالسين.
وقاطعت المتحدِّث، موجهاً سؤالي إلى ذلك الشيخ، ولكنَّه لم يردّ، لأن النعاس قد حال بيني وبينه، والتفت إليه الحضور، وابتسم بعضهم، وخاطبه الذي كان جالساً بجواره: «يا أبا محمد، الرجل يوجه إليك سؤالاً»، وتخلَّص الشيخ من نعاسه، وأعدتُ السؤال: يا أبا محمد، نريد أن تحدثنا عن بعض ذكرياتك وتجاربك.
وتنحنح الرجل المُسنّ، وانفرجت أسارير وجهه الذي رسمت عليه الشيخوخة لوحتها المعروفة التي تُحسن إبراز التجاعيد المثقلة بذكريات العمر الطويل.
تحدث ذلك الرجل المسنّ عن حياةٍ عاشها كانت بمثابة الحكايات الخيالية لجيل الشباب الذين كانوا يستمعون إليه، وبالرغم من أن بعض حضور المجلس قد أبدوا نوعاً من التضايق حينما طرحت سؤالي على الشيخ، إلا أنهم توجهوا إليه بعد ذلك، منبهرين ببعض القصص التي رواها عن جيل الأمس، وفوجئوا حينما وجدوا منه معرفة ببعض أمور السياسة التي تتعلَّق بنشأة دولة العدو الصهيوني في فلسطين، والحرب العالمية الثانية.
ولم يفصل بين الناس وبين حديث هذا الرجل المسنّ إلا دعوة صاحب البيت إلى مائدة العشاء.
حينما قبَّلت رأس الشيخ رأيت دموعاً حائرةً تترقرق في عينيه وسمعته يقول: «عسى كلامي كان مناسباً يا ولدي»، قلت له: كان مناسباً وجديداً على حضورٍ تحدثوا في أمور لا نفع فيها.
قال صاحبي: بعد العشاء ودعت ذلك الشيخ وأنا سعيدٌ بما صنعت، لأنني شعرت أنني أدخلت من السرور على قلبه الكبير ما سيجعل نومه هادئاً.
وحينما استأذنت من صاحب الدار «ابن ذلك الرجل المسنّ» قلت له: أما رأيت كيف كان والدك سعيداً؟، أما تشعر أننا نجني على هؤلاء الكبار من آبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجدَّاتنا حينما نشعرهم بأنهم يجلسون معنا جلوس المنتظر للموت، قال: بلى واللهِ، وإن في المجتمع من إهمال هؤلاء ما يؤلم القلب.
قلت لصاحبي: يا لها من مشكلة اجتماعية خطيرة، ويا له من إهمال لن يجني أصحابه إلا الإثم مع مَنْ قاموا على رعايتهم وتربيتهم، ومن عاشوا حياتهم الماضية كدَّا وتعباً ومعاناة لا يحملها إلا أصحاب العزائم والهمم.
يا مَن مَنَّ الله عليه بوجودٍ أب كبير أو جد أو جدَّةٍ أو أمٍّ كبيرةٍ، إياك أن تكون من أهلً «اللؤمً» الذينً ينسوْن من أحسن إليهم، وإياك أن تنسى مراعاة مشاعر الذين تفضَّلوا عليك بما لا تستطيع أن تفعل معهم عشر معشاره.
هؤلاء الكبار هم الذين خاضوا متاعب الحياة، وحملوا أبناءهم على أكتافهم حتى أوصلوهم إلى شاطئ النجاة، فلنجعل مجالسنا ميداناً جميلاً يسعدون فيه بالحديث عن ذكرياتهم وتجاربهم التي تستفيد منها الأجيال.
إشارة:
يا أرذل العمر كم أتعبتَ راحلتي
فاستسلمت بعد طول السعي للوتدِ
|
|