عندما تدنو أيام الجنادرية تشعر بها كيانات عديدة في المجتمع باعتبارها مهرجاناً للثقافة الأصيلة، وشاهداً على أن هذا المجتمع لا يمكن إلا أن يكون طموحاً نحو النمو والتطور، وسباقاً للبناء والتعارف والاتصال والتفاعل مع الآخرين. وعندما يتآلف الماضي مع الحاضر في واحدة من أجمل صور التعبير عن الكفاح من أجل بناء الانسان بناء متوازناً ومتسقاً مع معطيات العصر الحديث، يأتي الشعور الكبير الذي يشهد بأن مجتمعنا السعودي بفضل الله وحمده مجتمع وسطي استطاع خلال عقود قليلة استثمار كل ما نتج عن العقل البشري من مظاهر التقدم والرقي الانساني استثماراً حميداً عاد بالنفع العام على هذا المجتمع وعلى عدد من المجتمعات الانسانية. وتأتي الجنادرية هذا العام مثقلة برسالة جديدة، حيث تشرق شمسها في زمن التغيرات العالمية المتسارعة، لتصبح رسالتها أكبر من أي عام مضى. فهي هذه المرة أبلغ في كونها رسالة «وطن» ورسالة «أمة» ورسالة «فكر وسلوك».
على الجنادرية هذا العام أن تكون أكثر جرأة في تحقيق رؤية وسطية للمنهج في كل شيء، وأن تكون أكثر وضوحاً في طرق أكثر الموضوعات حساسية، وبشموخ كبير يدفعه ايمان عميق بأن المجتمع يمر هذا العام باعادة جدولة أجندته الفكرية والسلوكية، وأنه لم يعد أمام الكيانات المجتمعية المتعددة مناصاً من قبول السعي الجاد نحو أكثر الآراء وسطية، وأبلغها تسامحاً وقبولاً للآخر من بيننا وللآخر من غيرنا، وفق تدارس مستنير، بآليات نموذجية، لكل مركبات وعناصر منظومتنا الفكرية التي لا يزال كثيرون يعتقدون بعلوها عن فرضية منهجية المراجعة وإعادة التفكير والبناء من جديد!!.
ربما استطاعت الجنادرية - فيما مضى - أن تقول كثيراً عن تاريخنا وحاضرنا وتطلعاتنا المستقبلية، ولكنها اليوم يجب أن تبرهن، ولغيرنا، أننا فعلا نتغير كما يفعل كل الناس، وأننا عندما نواجه مشكلات مجتمعية قديرون على تجاوزها بنجاح وكسبها للصالح الوطني الأعلى والأكبر. ربما أُتينا في زمن مضى من الجنادرية عبر التخوف من كثير من الجرأة في تناول عدد من مركباتنا وعناصرنا الحيوية، لأنها فقط «حيوية»، وليس لأننا كنا نؤمن بثباتها وديمومتها. وفي هذا منتجع فسيح لمريدي الاختراق قد يكونون أو يصيرون الى الولوج منه. إن المرحلة اليوم مدعاة لضرورة الربط بين رحلة التحضر والتمدن العظيمة التي قطع أميالها الطويلة المجتمع السعودي «والتي تبرز بجلاء في مهرجان الجنادرية» وبين سمو هذا المجتمع ورفعته على أن تدنس سمعته أو تهاجم قواعده التي قام عليها والخالية في أصلها من كل إفراط وتفريط، وغلو وتطرف، فلا يمكن أن يتصور عاقل أن تلك السمات المذمومة تبني مجتمعاً بهذا الشموخ. فلتكن الجنادرية دليلاً عملياً مرئياً ومحسوساً على أن المجتمع السعودي - بفضل الله ثم بحكمة قيادته وولاء أهله - مجتمع عصري يستمد عصريته من منهج رباني قويم سمته العدل والاحسان وقوامه البذل والعطاء والتسامح، وأساسه العلم الذي بنى ويبني جميع الأمم.
* عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام
|