الراصد لأحوال الأمة العربية في عصرها الراهن لا يعايش إلا افتعال المواقف وانفعال الردود، والخلط بين المفاهيم، والإسراف في الإقبال، والتولي الجامح في الإدبار. نجد ذلك عند حملة الأقلام، وحملة الأعلام، وسائر النخب الفكرية والسياسية، وطائفة من الموغلين في الدين بغير رفق. فالطرف المطاع يصل به المريدون إلى حد التصنيم والعصمة والإحساس بأنه لا يُسأل عما يفعل، فيما يكون الطرف المخالف أو المناوئ شيطاناً أكبر، لا يصدر منه إلا منكر القول والتآمر والعمالة، وليس له ها هنا إلا ما للخاطئين من مسكن ومطعم، وما من وسطية لا تخرج البشر من بشريته، ولا تُحمِّل النفس فوق طاقتها، بل هناك توتر وانفعال وشك وارتياب وشقاق ونفاق وتأليه للهوى. وتذبذب الرأي العام بين المصنمين والمشيطنين جعله رهين المحبسين، لا يفرق بين الموالاة والمعاهدات، ولا بين الاتقاءات والمداهنات، ولا بين المحارب والمعاهد، ولا بين المعارضة والمنازعة.
وهذا الخلط أدى إلى استحالة القبول باختلاف التنوع، وألجأ المستهمين على بطن السفينة وظهرها إلى إحلال الصدام محل الحوار، والتلاوم بدل التعاذر، وسوء النوايا بدل حسنها، والقطع بدل الاحتمال، ولغة السلاح بدل لغة الكلام. وهكذا أصبح الإنسان العربي شؤيَّة التناقض، وهذه المرحلة المتوترة أتاحت للمرتكسين في الفتنة أكثر من فرصة، فكل مواجهة ضدهم يتربصون بها الارتداد السريع والتراجع الذي لايلوي على شيء، فكل مهتاج أعزل من الإمكانيات المعرفية والمادية مصيره إلى التولي دون أي مسبقات. وعندما يختار البعض الطريق الأصعب والأشد، يقع في عزلة شديدة الوطأة، تضطره إلى التسربل بالدروع، والتمترس خلف الأكمات، والفرار إلى الكهوف والمغارات، وما أن تأخذه وحشة المسيء لنفسه، ويجد الطريق أمامه مسدوداً يضطر إلى التخلي عما بدر منه من قول أو فعل أو إقرار، وحين يتخلى عن آرائه يتصور البعض أن كل من قال كلمة الحق على موعد مع الرجوع عنها. والأسوأ من هذا إضفاء التجليات على المندفعين بغير علم، وبدون أهلية، وبدون أي مسوغ لتصدر الفتيا، مما يعني ان هذه المواقف هي عين الحق على كل الصعد: العلمانية والدينية والفكرية والأدبية، حتى إذا سادت وأصبحت قضية قطعية لا مجال للبحث في مشروعيتها تبدلت الآراء غير الآراء والفتاوى، وعول المتخلون عن فتاواهم على مبدأ (الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل). أملاً في أن يكتسب المتخلي عن سالف أقواله (تجليات) جديدة، تعطيه فوق ما أعطته اندفاعاته، ويكون بهذا ملء السمع والبصر في الإقبال على الآراء المتطرفة، وملأهما في الإدبار. وكأني بهذه المكتسبات تغري المترددين باختصار الطريق إلى البطولة الزائفة. فمن جازف بالآراء، ثم ضُيِّق عليه، وأطر على الحق، لم يجد بداً من الانقلاب على نفسه، كان في نظر البعض بطلاً في الأولى ومتألقاً في الثانية، وهو في حقيقة الأمر متسرع في الأولى، ومنهزم لا يلوي على شيء في الثانية. وكان يجب والحالة تلك أن نفرق بين الرجوع إلى الحق وفشل المشروع والتخلي الاضطراري لتفادي الخسارة الشاملة، وإذا قبل غيري إضفاء البطولة على مثل هذه الممارسات، فإنني أجد أن من حقي التغريد خارج السرب، ف(ذلك فزدي). والحكماء المجربون يحذرون القول الذي يضطرهم إلى الاعتذار أو الانكسار، والعاقل الحصيف من يعرف المخارج قبل المداخل، ولقد رأينا طائفة من المجازفين وعايشناهم، وكان بإمكاننا أن نفعل فوق ما فعلوا، وخطؤنا التردد في الإنكار عليهم، وتفضيل الموقف الحيادي، حتى صرنا إلى ما صرنا إليه، ثم كان أن تخلوا عن كل ما قالوه، وحسناً فعلوا، وقبيحاً أن نسمي الأشياء بغير أسمائها. ولما لم يكن اندفاع الرأي العام وغوغائيته وقفاً على حدث بعينه محلياً أو عربياً، لزم استدعاء كثير من الظواهر والأشخاص الذين ملؤوا المشاهد السياسية والفكرية والدينية والأدبية، منذ بدء الثورات العربية، التي أذلت الإنسان العربي، ولعبت بعواطفه من علمانية متطرفة، إلى قومية متشنجة، إلى طائفية متسلطة، إلى غلو ديني مدمر، إلى استغراب ماسخ، أو تبعية مُذلَّة. فماذا كان الموقف من الحرب (الأفغانية) و(العراقية الإيرانية) إبان اشتعالها، وما الموقف من ذيولها وآثارها ونتائجها، بعد ان تعرت اللعب، ووضعت الدعاية أوزارها، وكم ألقي على كراسي القيادة العربية من أحزاب ومبادئ وأنظمة، ولكنها لم تنب، كما ناب سليمان عليه السلام. وعلى مستوى العلماء والدعاة والساسة نضرب المثل بالمواقف: (الذاتية) و(الغيرية). فهذا (سيد قطب) رحمه الله، اندفع الرأي العام المناوئ للاشتراكية والعلمانية إليه، واقبلوا على كتبه وآرائه يطبعونها ويوزعونها بالمجان، ظناً منهم أنها صالحة لكل زمان ومكان، وما علموا أن مشروعه الإسلامي صيغ ليكون في وجه الاشتراكية الشرقية والعلمانية الغربية. ولما أن تبين المراهنون على مشروعه أنهم قدروه فوق قدره، واستعملوه في غير محله، كانت ردة الفعل، إذ نبذوه، ونالوا منه، وحمَّلوه مسؤولية التطرف، على شاكلة الاسقاطيين الذين يبحثون عن المشاجب، ليتخففوا من تأنيب الضمائر، وما كان من حقهم من قبل أن يأخذوه بقوة، وما كان من حقهم فيما بعد ان ينبذوه بعنف، ويذموا صاحبه على الإطلاق. (سيد قطب) عالم ومفكر ومفسر ومجاهد، عرفته يوم أن كان صدى لفكر العقاد، ويوم أن تخطاه إلى الفكر الإسلامي، ويوم أن تجَلَّت حركيته واقتيد للمشنقة، فكان أن استفدت من معارفه وتجلياته، ولم أتبن عزماته. وحقه علينا الدعاء والترحم، وما تركه من كُتب تعد إضافة للفكر الإسلامي، وليس شرطاً أن تكون مشروعاً عملياً، نأخذ بها جملة وتفصيلا. مع أن مشروعه ومقاصده إذ ذاك تحيل إلى ماهو قائم في البلاد من إظهار للدين، وتحكيم للشريعة، ومن ثم فإن مشروعه السياسي دواء لوضع غير وضعنا، وحين ضربه المتسرعون، أحدث عندهم مغصاً ودواراً، فقطعوا بفساده، وما كان الفساد إلا في تصرفهم، ومن ذا الذي يجرؤ على النيل من (الظلال) وأشياء من (العدالة..) و(أمريكا من الداخل)، ولو فعل الناس مع كل من يختلفون معه فعلهم معه لما بقي على ظهرها من محسن، وها نحن نجد من ينال من مشروع (ابن تيمية) رحمه الله ومشروع (محمد بن عبدالوهاب) رحمه الله، وما كان الخطأ إلا في ابتسار النصوص أو تبني الأفكار مع تغير الأحوال، فمشروع (ابن تيمية) الجهادي في زمن (التتار) ومشروع (ابن عبدالوهاب) لحفظ جناب التوحيد، في زمن الجهل والخرافات والتمزق والقبليات والإقليميات، وفاتنا أن لكل زمان دولة ورجالاً.
ولا أن يحرم من حقوقه بوصفه مواطناً، كل الذي نريده وضع الأمور في مواضعها، وإنقاذ الرأي العام من قلب الحقائق، فالمعارض يختلف عن المنشق، والراجع إلى الحق يختلف عن الفاشل المغلوب على أمره، إذا عرفنا ذلك، وأيقنا به، فليس لنا من بعده أن نطالب بصيغة معينة من التعامل، بل نطالب بالعفو والصفح ليعود المنشق الفاشل أو المتخلي إلى الصف كما خرج منه، ومتى تصورنا الأمور على غير ذلك، رمَّت جروحنا على فساد، وأتحنا الفرص لمغامرين آخرين. إن على مثل هؤلاء أن يعودوا متجردين من التمشيخ، ويقصدوا مقاعد الطلب بتواضع وندم، ليعرفوا حكم الله في المخالف، لقد خطؤوا أنفسهم فيما قالوا بمحض إرادتهم، وبدون أن يتنزل عليهم وحي من السماء، وما ارتكبوه من أخطاء أدت إلى مصائب فادحة، إن كان المفجرون قد أخذوا بآرائهم. لقد كانت لهم آراء في مقترفات ومقترفين، وفجأة برؤوهم دون تحفظ أو تحديد أو تخفيف ومن المخالفين من لا تبرأ الذمة بتزكية قوله، فالمخالف المقترف فعلاً أو قولاً يظن أنه على صواب، ومن ثم انطلق يهنئ مخالفه على التوبة، ولما يزل على خطيئته أو لممه. إن هذه الدوامة من الفعل ورد الفعل خلطت الأوراق، وفتحت أكثر من ثغرة، فلا المعتدل يعرف أنه معتدل، ولا المخطئ يعرف أنه مخطئ، وتلك كارثة تصيب الأمة في الصميم، إن من حقنا الحيلولة دون ان يتنفس الحاقدون، ليقولوا هذا هو الإسلام، وهؤلاء هم أهله، يحرِّمون بلا دليل، ويحلِّلون بلا تفصيل، فحين نقبل المتخلي عن قول أو فعل، فإنما يجب قبوله للعفو عما سلف، لا أن يعود رمزاً يبحث عن تجليات جديدة، ليغرق في التطرف المضاد، ثم نكون مع قضايانا المصيرية العربية بين الافتعال والانفعال.
لقد كانت لعلماء الأمة بحق وحقيق مواقف من علماء ومفكرين وأدباء لم يصلوا بها إلى حد التكفير، ولم يشرعنوا لأنفهسم المواجهة المسلحة أو استعداء السلطة عليهم، وإنما أعلنوا مخالفتهم، وحددوا وجوه الخلاف، وألزموا خصومهم كلمة الحق، ومازالوا على آرائهم يختلفون مع غيرهم، ولكنهم لا يكفرون، ويعترضون، ولكنهم لا يفجرون، ويصدعون بالحق، ولكنهم لايخلون بالأمن، لايصادرون حقاً، ولا يستعدون سلطة. وهؤلاء الذين غلوا في الدين بغير رفق، وكانت مواجهتهم عنيفة، ثم فجأة ألقوا السلام، وشرعنوا لمخالفيهم ما كانوا كفروهم عليه، خرجوا من النقيض إلى النقيض، وكلا طرفيهما ذميم. هذا الاضطراب مدعاة إلى الشك والارتياب وتضليل الرأي العام. وفقهاء السلطان المتزلفون المرتزقون كما يسميهم أولئك مازالوا عند رأيهم الذي تجاوزه الناكصون في الذهاب والإياب، حتى لكأني أراهم ألعوبة بين الإفراط والتفريط. لقد مللنا من تزييف المواقف وقلب الحقائق، وإذا كان علماء السلف يختلفون فيما بينهم ثم يلتقون حول ما طلب منهم الرد إليه، يرجعون إلى ما تطمئن إليه نفوسهم، ومن تعقب كتب الفقه المقارن: ك(المغني) وكتب الخلاف ك(الإنصاف) تجلت له عظمة العلماء، وعرف متى يكون الرجوع إلى الحق فضيلة.
|