دخل عمرو بن سعيد بن العاص وكان غلاماً على معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - فقال له معاوية: إلى من أوصى بك أبوك يا عمرو؟ قال الغلام: أبي لم يوصِ بي إلى أحدٍ، ولكنَّه أوصاني، قال له معاوية: بماذا أوصاك؟ قال: أوصاني ألاّ يفقد منه أصحابه، ومحبُّوه إلا جسمه، فالتفت معاوية إلى من كان بجواره، وقال: إنَّ هذا الغلام لأشدق، والأشدق وصفٌ للفصيح البليغ صاحب المنطق المقنع، والبيان المبدع، ومن ذلك الوقت أُطلق عليه لقب الأشدق.
وقد كان عمرو بن سعيد الأشدق ذا فصاحةٍ وبيان، وهمَّةٍ عالية، وشجاعةٍ نادرة، فلم يكن غُفْلاً في ميدان الفصاحة، ولا مجهولاً في ميدان البطولة، ولا عاجزاً في ميدان الرأي والمشورة، وقد بعث بخطاب إلى الحسين بن علي رضي الله عنه وعن أبيه وأرضاهما، حينما كانت مشكلته مع يزيد بن أبي سفيان - رحمه الله - وكان عمرو بن سعيد عاملَ يزيد على مكة.
قال عمرو بن سعيد في كتابه إلى الحسين رضي الله عنه: «أما بعد فإني أسأل الله أنْ يصرفك عما يوبقك، وأنْ يهديك لما يرشدك، بلغني أنَّك قد توجَّهت إلى العراق، وإني أعيذك بالله من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبدالله بن جعفر، ويحيى بن سعيد، فأقبل إليَّ معهما، فإنَّ لك عندي الأمان والصلة والبرَّ، وحُسن الجوار، لك الله عليَّ بذلك شهيد، وكفيل ومُراعٍ ووكيل، والسلام عليك».
وردَّ عليه الحسين بن علي رضي الله عنهما بكتابٍ جاء فيه:«أما بعد: فإنه لم يشاقق الله ورسوله من دعا إلى الله عز وجل، وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين،وقد دعوت إلى الأمان والبرِّ والصِّلة، فخير الأمان أمان الله، ولن يؤمّن الله يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا فنسأله الله مخافة في الدنيا، توجب لنا أمانَه يوم القيامة، فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبرّي فجُزيت خيراً في الدنيا والآخرة والسلام».
ومرَّت الأيام وإذا بعمرو بن سعيد الأشدق ذي الحصافة والرأي والحكمة والفصاحة والبيان يغتنم فرصة غياب عبدالملك بن مروان - رحمه الله - عن دمشق سنة 69هـ حينما خرج منها يقود جيشه لقتال زُفَر بن الحارث الكلابي، وقيل بل كان خروج عبدالملك عام 70هـ لقتال مصعب بن الزبير، أقول: إذا بعمرو بن سعيد يغتنم خروج عبدالملك هذا من عاصمة خلافته، فيغلب على دمشق، ويدعو الناس إلى مبايعته ونقض بيعتهم لعبدالملك بن مروان.
وجزع عبدالملك من ذلك جزعاً شديداً، ويقال إنه شاور من عنده من رجاله فوجدهم واجمين لا يدرون بماذا يشيرون فخرج يسير على قدميه لينفِّس عن نفسه فلقي شيخاً كبيراً، فسأله عن الأحوال وما استجدّ منها، فأخبره الشيخ وهو لا يعلم أنه عبدالملك - بما سمع من استيلاء عمرو بن سعيد على دمشق، فسأله عبدالملك: لو استشارك الخليفة فبماذا تشير عليه؟ قال الشيخ: أنصحه أن يعود إلى دمشق فإنه إن فعل ذلك منصور إن شاء الله لأن عمرو بن سعيد يعد ظالماً له وناقضاً لعهده، والظالم لا ينتصر، فبعث ذلك الرأي أملاً كبيراً في نفس عبدالملك وعزم على الرجوع إلى دمشق لتخليصها من ابن عمه وبعث إليه بكتاب فيه تأنيب ونصيحة واضحة الحكمة جاء فيه:
«أما بعد يا عمرو فإن رحمتي لك، تصرفني عن الغضب عليك، لتمكُّن الخَدْع منك، وخذلان التوفيق لك.. ومن رحل عنه حُسْن النظر، واستوطنته الأماني، مَلَك الحَيْنُ تصريفه، واستترت عنه عواقب أمره، وعن قريب يتبيَّن من سلك سبيلك، ونهض بمثل أسبابك أَنَّه أسير غفلة، وصريع خَدْعٍ، ومَغيضُ نَدَم، والرَّحِمُ تحمل على الصَّفْح عنك، ما لم تحلُلْ بك عواقبُ جهلك، وأنت إن ارتدعت كنت في كَنَفٍ وسترٍ والسلام».
فردَّ عليه عمرو بن سعيد بقوله:«استدراجُك النِّعم إياك أفادك البغي، ورائحةُ القُدرة أورثتك الغفلة، وعن قريبٍ تتبيَّن: مَنْ أسير الغفلة، وصريع الخَدْع، هكذا خانت الحكمة والحصافة عمرو بن سعيد الأشدق، ولو فكَّر فأحسن التفكير، وتدبر الأمر فأحسن التدبُّر لما أقدم على عمله، لأنه حينما فعل ما فعل كان ناقضاً للعهد والبيعة التي منحها لعبدالملك، وباغياً على الخليفة، ومخادعاً له في غيابه، وكل ذلك يدل على سوء ما صنع، ويؤكد أن الدائرة ستدور عليه.
وهكذا يضيع الميزان الصحيح حينما تطغى على العقل - أحياناً - شبهة تضلِّله، أو هوى نفسٍ يغطِّي عليه، ولقد كان رأي ذلك الشيخ الذي قاله لعبدالملك رأيَ عقل وحكمة، ونحن من هنا من موقعنا المعاصر حينما نتابع ذلك الموقف من عمرو بن سعيد ندرك أنه موقف مخذول منذ البداية، لأننا نُطِلُّ على تلك الأحداث، من هَرَم الزمن الطويل المرتفع، وننظر إليها من خارجها، ونرى بهدوء وتأمُّل حقيقة ما جرى فيها.
لقد كانت نهاية عمرو بن سعيد الأشدق على ما توقَّع ذلك الشيخ الناصح لعبدالملك وفي ذلك عبرة للمعتبر.
إشارة:
إني لأعجب حين أُبصر مسلماً
يستقبل الأحداثَ كالتمثالِ
|
|