Monday 15th december,2003 11400العدد الأثنين 21 ,شوال 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

خطاب الصحوة قبل وبعد 11 سبتمبر خطاب الصحوة قبل وبعد 11 سبتمبر
د. عبدالرحمن الحبيب

شهدت المجتمعات العربية، خلال العقدين المنصرمين، صعوداً للجماعات والتنظيمات الإسلامية السياسية للمساهمة النبيلة في حل الأزمات حين أخفقت التيارات الأخرى في ظل ظروف من الالتباس الفكري والفراغ السياسي.
وقد تميز خطاب كثير منها بتبجيل أو تقديس خطابها الخاص ورفعه بموازاة النص الأصلي المقدس (القرآن والسنة) مع انتقائية في اختيار النص التأويلي التراثي لما يخدم إيديولوجية كل جماعة.. وصاحب ذلك رفض الحوار مع الآخر وعدم ممارسة النقد الذاتي وجمود في خطابها. وهي بذلك ليست بدعاً، بل تشترك مع جلِّ الحركات العربية المعاصرة التي سبقتها من قومية واشتراكية ووطنية حين تم استيراد الإطار النظري التحديثي دون ممارسة أو مأسسة مدنية.. أي جرعات تحديثية دون حداثة! ولكن في جماعات الإسلام السياسوي يأخذ الخطاب بعداً أكثر خطورة بانتسابه للمقدس الديني.
وتعاملت كثير من تلك الجماعات مع النص الديني ليس من خلال تفاسير وتأويلات منتقاة فحسب، بل أيضاً من خلال قراءة إيديولوجية منحازة تفهم النص عبر رؤية خاصة غير مرتبطة بالدين بل تنشأ من قناعات اجتماعية عرفية ومصالح ومفاهيم لجماعة معينة ذات أهداف خاصة وذات رؤية فكرية محددة ومحدودة للكون والحياة، للمجتمع والدولة، للذات والآخر، للمرأة والرجل..الخ. فإذا كانت التفاسير والتأويلات تستنطق النص الديني من خلال ضوابط معيارية كاللغة وأسباب النزول والظرف الزمني والمكاني، فإن الإيديولوجية تقرأ النص وفقاً لفهمها الخاص المنفلت من جميع المعايير العقلانية ما عدا معيارها الذاتي، وبذلك تسبغ على فكرها احتكار الحقيقة المطلقة. فكأن النص الديني - وكذلك الواقع - تابع أو خادم لإيديولوجيا هذه الجماعة أو تلك.
يمكن القول أنه قبل 11 سبتمبر، كانت مفاهيم حركة التاريخ وجدليته الطبيعية وتراكم المراحل الزمنية وقوانين التطور الاجتماعي خارج إطار وعي تلك الجماعات. وهي بذلك وليد شرعي ولكنه خديج لأغلب البنى الاجتماعية في مجتمعاتنا الخليجية. فقبل الطفرة الاقتصادية كانت مجتمعاتنا تسير نحو التطور بطريقة بطيئة لكن طبيعية. وأثناء الطفرة وما تخللها من تسارع تغيرات أنماط المعيشة وما تبعها من ارباك الحراك الاجتماعي ومن الهجرة إلى المدن (التي قلبت دور المدينة من كونها مركزاً منفتحاً للمعرفة واشعاعاً ثقافياً للأطراف إلى مستقبل سلبي لقيم الماضي والأعراف المنغلقة والعشائر)، ومع عدم تطوير المناهج التعليمية بما يناسب المرحلة الجديدة، ومع أزمة البحث العلمي أو ربما غيابه، كان الاقتصاد الريعي يعطي العمل والتفكير قيمة ثانوية، فالثروة الهائلة موجودة في باطن الأرض كل ما هنالك مجرد حفر وبعض آليات وطرق بسيطة مباشرة لاستخراجها، حيث غالبية قوى العمل اليدوية والمحترفة الخبيرة أجنبية، مع انخفاض المساهمة الشعبية في عجلة الاقتصاد المحلي..الخ. ذلك كله أنتج قناعات وبنى معرفية لا تعطي قيمة كبيرة للعمل ولا لإعمال الفكر الفلسفي، فكما تستخرج الثروة من الأرض تستخرج نصوص التأويلات الماضية وتُسقط على الحاضر دون اعتبار لحركة التاريخ، إلا عندما يتم ذلك إجبارياً نتيجة تهديدات جادة ومن خلال صراعات البقاء، كما يحدث الآن من أعمال إرهابية ومآس أفرزتها عقلية وخطاب بعض التنظيمات الإسلاموية..
لكن بعد 11 سبتمبر وما تلاها من كوارث حاولت بعض تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي إعادة وعيها وإنتاج خطابها النقدي رافعة شعار التجديد، بل تأججت حمى: «تجديد الخطاب الديني» و«الإصلاح الديني» و«نقد الصحوة».. فقلما تجد داعية أو كاتباً إسلامياً لم يتطرق لهذه المواضيع. ومن ذلك ظهر دعاة وكتاب إسلاميون في الساحة المحلية بفكرة تجديد الخطاب الديني لتيار الصحوة مع تبني خطاب نقدي. ورغم عدم تبلور هؤلاء إلى تيارات يمكن تمييزها، حيث تراوحت بين الدفاعي والاعتذاري والسجالي والحواري والنقدي..الخ، إلا إنه بالإمكان من ناحية أولية رصد طيفين أساسيين.
الطيف الأول (المحمود، الذايدي، العتيبي، الوهيبي..) ينطلق من مبدأ الحرية والإرادة الإنسانية، باعتبارها خياراً استراتيجياً وليس إجباراً مرحلياً تكتيكياً تتطلبها ظروف المرحلة. وفي ذلك يقول محمد المحمود: «اللاعنف والتعايش السلمي والقبول بالآخر المختلف.. والإنصاف من الأنا في جدليتها مع الآخر، كلها ممارسات تأخذ في صياغة بعد إنساني.. وهذا البعد ليس ممارسة تكتيكية... هذا الخيار المتلائم مع الزمن المتحول إليه يبقى خياراً استراتيجياً لا خيار لنا سواه». ويقول في مقالة أخرى: «إن الانفتاح على الأفق الإنساني ضروري..وما لم تع الصحوة هذا.. فإنه توشك أن تبدأ الانحسار، بل ربما بدأت، وهو ما يؤكده كثير من قارئيها.. لأنها - سواء اعترف بذلك الخطاب الصحوي أم لم يعترف - تواجه تحديات كبرى، وقد بلغت مفترق الطرق، فإما المراجعة، وإما الاندثار». هنا وعي بجدلية الواقع والتاريخ والتعامل معهما من منطلق نقدي موضوعي يمكنه استشراف المستقبل.
الطيف الثاني ينطلق في مراجعته من مبدأ الدعوة السمحة على قاعدة توفيقية وتعديل ما ليس منه بدّ لدرء الفتن، ومن أجل تجاوز الكوارث والأخطاء المرحلية والترغيب بالخطاب الصحوي (العودة، العواجي، القرني..). وفي ذلك يقول د. محسن العواجي في ختام مقالته «تجديد الخطاب الديني بين مطرقة الأتباع وسندان الخصوم»: «لابد أن تتباين وجهات النظر بشأن تقييم الخطاب الديني لمحوريته في النزاعات كلها، ومن الطبيعي أن ينقسم المثقفون حوله.. وستبقى أسئلة جوهرية كبرى تحتاج إلى مثل شجاعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه للبت فيها، بعيدا عن الجمود الفكري وأحادية الرأي..». إذن التعديلات ضرورة، لكنها حسب سياقات هذا الطيف تعديلات غير واضحة، والجريء منها بانتظار شجاعة ما. ومن غير المعروف إلى متى سيطول هذا الانتظار؟ وهل سينتظر التاريخ ذلك الشجاع؟ يبدو أن هذا الطيف لا يسلِّم بفكرة النقد التاريخي كفلسفة جدلية بقدر ما يحاول تصحيح الأخطاء المرحلية مع تجنب مطرقة الأتباع وسندان تبديل خطابه السابق تبديلاً تاريخياً.
إن تشكل الخطابات الجديدة في هذه الأطياف ما يزال في البدايات وفي حالة سيولة، وقد يستمر بعضها، دون تخوم تحده، إلى منتهاه، بحيث يخرج من دائرة إصلاح الخطاب الصحوي إلى فعل النقد التاريخي على أساس من التحليل الموضوعي والاستقصاء الفكري الممنهج.. والأيام القادمة حبلى بالمفاجآت.

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved