لم يخرج الفكر العربي من دوامة انشقاقاته النظرية، وربما لن يستطيع الخروج منها في المستقبل القريب،.. أحياناً أجد نفسي مضطراً للرضوخ لتلك الحالة اليائسة من أمل في التغيير، بسبب حالة الفشل العربية والعجز المستديم عن تجاوز أنساق الانشقاق النظري المستمر، فعندما سمعت أحدهم يعدد التيارات التي انشقت عن التيار السلفي منذ ولادته في القرن السابع عشر، أدركت أن لا امل يلوح في أفق الحاضر أو المستقبل، وأن مصاب هذه الأمة لن يختلف كثيراً عما أصابها في قرون سلفت،.. فحسب آخر تصنيف، يوجد في الساحة الدعوية أكثر من سبعة تيارات سلفية في الوقت الحاضر.. قد تتفق في معظم أصول العقيدة، لكنها بالتأكيد مختلفة، وأحياناً متضادة في أدوات وآليات العمل الحركي أو السياسي، تأخذ بعضها أو أغلبها أسلوب الإقصاء الشديد للمخالف كأحد أهم الأسلحة الفكرية في ثقافتنا المعاصرة، ولكن في أحيان نادرة قد تتفق مع الآخر في سبيل تحقيق أهدافها.
والتيارات «النظرية» والحركية منها تعمل في صلب أعماق المجتمع لكسب تعاطف الأفراد، ولتجنيد البعض الآخر لخدمة قضيتها في الصراع الدائر فيما بينها، ومعظم الأغلبية الصامتة لا يدركون جُلَّ تفاصيل تلك الاختلافات بين معظم الطوائف والحركات السياسية، ولو تقصَّينا برامجهم العملية لوجدناها تنقسم إلى ثلاثة اتجاهات: تيار الطاعة لولي أمر المسلمين، وتيار الجهاد النظري بالكلمة والدعوة بالموعظة والفتوى، وتيار الجهاد الحركي الذي يمثل ذراع العنف في المجتمع.. كذلك ينطبق مثل هذا التقسيم على تيارات الإسلام السياسي في بعض البلاد المجاورة، ففي مصر مثلاً.. هناك الأزهر، والنظرية السياسية للإخوان، والحركية الجهادية في تيار التكفيريين..، أيضاً يوجد مثيل لذلك في الجزائر والمغرب..
وهذا الإرث في فلسفة الصراع «الشرقية» صبغ أغلب تيارات الانشقاق في صدر الإسلام.. فقد انقسم تيار الخوارج إلى فرق عديدة، واختلف المعتزلة إلى طوائف متفرقة ومتضادة في أحيان كثيرة، كذلك الحال في غيرها من تيارات الإسلام «النظرية»، وما يزيد من الأمر صداماً، هو أن دعاة الأفكار النظرية الجديدة، تقدم تلك الاجتهادات لطلابها على أنها اليقين الملتزم بمثالية الدين الحنيف، وبسلفية الصحابة، والجيل الذهبي في القرون الأولى.. وبواجب الالتزام الحرفي بالاجتهادات المتجددة حسب الموقف السياسي أو الاجتهاد الشرعي لمفتي تلك الطائفة، ولم تتوقف ظاهرة الانشقاق النظري عند تيارات الدين، فقد ارتدت التيارات الحداثية الوافدة لباس التنظير والأدلجة، وقد ظهر ذلك واضحاً في صراعات الخمسينيات والستينيات الميلادية.
ومن يطلع على كتب التاريخ في القرن الثالث والرابع الهجري، ويبحث في ملفات الحركة المدنية في ذلك المجتمع، سيدرك أن الفئات العاملة والمنتجة كانت تتبوأ درك الطبقات الدنيا والهامشية في ذلك الوقت، فلم يكن لها صوت، ولا منظمات، ولم يكن لأعمالهم أو مصالحهم أي ذكر في بنود النظريات المتصارعة في المجتمع، فالنُخَب في المجتمع العربي الإسلامي كانت تنحصر في رجال «الطائفة» المنتصرة سياسياً والشعراء و أعوان القبائل والقادة والجند، بينما تعيش فئات وأعضاء المجتمع المدني العامل في ضائقة وأزمة خانقة منذ القدم إلى اليوم، فلا مؤسسات تكفل حقوقهم، ولا جمعيات تمثلهم أمام الفئات الأخرى في المجتمع.
ومن خلال نظرة سريعة من خلال تلك الزاوية في العصر الحديث، سنجد أننا ما زلنا نراوح في ذلك المكان، فالمجتمع لم يكتسب بعد قدرة التعبير عن آرائه والبحث عن منافعه ومصالحه بعد مرور قرون من انهزام الجمود العربي والإسلامي أمام نمو القوة العقلانية الغربية، وثورة الفكر والفلسفة في أوروبا، وتطور الحركات المدنية في الغرب، وتعاظم أدوارها في مشاريع التنمية الإنسانية بعد انحسار صراعات العقول النظرية المجردة، ثم توالي ثورات العصور المتوالية.. الصناعية والتقنية والمعلوماتية، ووصول حشود نتائج ثوراتهم المعرفية إلى قلب الأرض العربية والإسلامية، ثم سيطرة أنظمتها الاقتصادية والعسكرية والصناعية تماماً على جميع شرايين الحياة في المجتمع العربي والمسلم.
في حين أن شعوب الأمم التي فتح أجدادنا الاوائل أراضيها استطاعت الخروج من نفق «الصراع النظري» إلى ساحة العمل الميداني، فالهند والصين تجاوزا بأعجوبة عوائق الحلول النظرية إلى عالم الإنتاج والاقتصاد والنجاح في ثقافة العمل، بينما ما زال أسيادهم في القرون الأولى يتصارعون من خلال ابتكار جزئيات حديثة في النظرية، ثم فرضها كاليقين على الأتباع والتلاميذ..
وبسبب هذه المفاهيم وهذا الزخم النظري الذي يشغل حيزاً كبيراً من عقول الاجيال المتتابعة، سيظل المجتمع يعيش في مخاض للتغيير من نوع مختلف، فالأفكار المجردة والإقصائية تحكم الأفراد، وتحركهم للعمل من أجل خدمة أهدافها، والجدير بالذكر ان معظم مصادر سلطات المجتمع الحالية تستمد قوة قبضتها من تلك الأفكار، ومن قدرتها على حشد الأتباع حولها، فالمؤسسات النافذة في مختلف اتجاهاتها تقدم نفسها إلى الناس على انها «الحق» وغيرها الباطل، وهو ما يحرض الفئات المعارضة في المجتمع على العمل أو الحركة من خلال نقض أصول تلك النظرية وإثبات بطلانها، وهو ما يجعل مصالح ومنافع الناس في مهب رياح تلك الخلافات والانشقاقات.
لم يصل الوعي عند الأفراد بسبب تلك الضبابية «النظرية» إلى العمل من أجل مصالحهم ومنافعهم كجماعات وفئات منتجة، فالمجتمع يكاد يخلو تماماً من جمعيات النفع العام، ومؤسسات تمثل مصالح الذين يعملون بسواعدهم، وينتجون من مخزون جهودهم الذاتية، وبسبب غياب هذه المفاهيم العملية، يلجأ الخاسرون لمصالحهم بسبب هجرة العمالة الوافدة إلى الداخل أو الكساد أو غزوات الشركات الزراعية الكبرى إلى قراهم الصغيرة إلى البحث عن ذاتهم «الضائعة» في قوة تأثير تلك الاجتهادات النظرية، ويجد عادة ذلك التائه نفسه في موقع قيادة لأحد الفرق الدعوية والجهادية.. من خلال دورات قصيرة الأمد..، ولعل الحلقة الضائعة في هذه المعادلة هي غياب حرية التعبير عما قد يعانون من كساد وانحسار في حياتهم الاجتماعية، وفراغ الساحة من المؤسسات والجمعيات المدنية التي تدافع عن حقوقهم، ومن المساحة القانونية التي تسمح لهم بالتحرك لحماية مصالحهم، وتلك هي القنوات السلمية التي من الممكن أن تحقق التوازن في المجتمع، وتساعد أفراده على التعبير عن حجم خسائرهم وانحسار مصالحهم بلغة عملية مباشرة، وستضيف التوعية بتلك الحقوق رصيداً أكثر تحضراً في داخل تلك الحركة الاجتماعية الضائعة وسط الجدل الذي لا يتوقف عن الانقسام في جزئيات النظرية.
إن المستقبل العربي لا يمكن أن ينهض إلا من خلال تفتيت متلازمة الانشقاق النظري المستحكم، وتهميش تأثيراته بفتح ممرات جديدة عمادها الابتكارات والاكتشافات وساحتها التجريب والتحديث والإنتاج، وسلاحها العقلانية المؤمنة والنفعية الواقعية لتفكيك بعض المفاهيم البائدة والقائمة على الدم والطائفة أو الاجتهاد النظري الجديد، ثم إحلال روابط الدولة والمدينة والأرض والثقافة والدين «النقي» بالعمل على إزالة جميع حقوق الامتيازات غير القانونية، ووضع الاستراتيجيات التي تؤدي إلى استبدال المفهوم القبلي والطائفي لتركيبة المجتمع بمفهوم المواطنة، وإبعاد موروث الانقلابات النظرية عن المجتمع وعن السلطة، التي يجب أن تكون في الحياد، وبمثابة القوة التي تحفظ موازنة الصراعات «النافعة» في المجتمع، وتحمي مستقبل الدولة من عبث مواريث لا تتوقف عن عادة الانشقاق النظري.
|