كانت الإنسانية في جاهليتها الأولى تعيش في ظلمات بعضها فوق بعض فمن عبودية الجماد من الأصنام والأوثان إلى ازهاق الأرواح البريئة بغير ذنب إلى شن الغارات، حتى أراد الله لهذه الأمة خيراً على يد رسول الإسلام والسلام فولد يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل في ذلك اليوم المبارك والشهر الأغر في جبين الزمن. وبولادته أشرق على الكون نور رسالته وقام مقام أولي العزم من الرسول صابراً على ما يلاقيه في سبيل الله والدعوة إليه بقلب ملؤه الرحمة والعطف وسعة الحلم على صناديد قريش وسفهاء قومه أولئك الذين لا قوه ودعوته بالاستهزاء والسخرية مرة والكهانة والسحر مرة أخرى.
وها هي مواقفه المشرفة وكلماته المأثورة، تمثل وتجسد معاني الرحمة والحلم إلى أبعد حد.
انظر إليه عندما هلك عمه أخذ يفكر في بلد غير هذا البلد، يؤمن بدعوته. فخرج الرسول إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه. خرج اليهم وحده. ودعاهم إلى الإسلام لم تكن ثقيف بأقل من أهل مكة عتواً ونفوراً فردوا دعوته وقابلوه بالانكار والجحود وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة من بني ربيعة وقد أدموا عقبيه. ورجع عنهم حزينا مما لاقى فيلقاه ملك من السماء فيستأذنه بأن يطبق عليهم الجبال. فيجيبه اجابة أرحم الخلق بهم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً. واسمعه مرة أخرى في وقعة أحد وقومه تصوب اليه السهام وتكسر ثنيته ويسيل الدم من وجهه الشريف ويقتل أصحابه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فانهم لا يعلمون. شأنه في ذلك شأن الأب الرحيم سواء في حالة الضعف كما مر أو في حالة القوة والمنعة والسيادة حين دخل مكة عنوة وقد قتلوا أنصاره ومؤيديه وبعد أن حصروه في الشعب وعذبوا أصحابه بأنواع العذاب. قام صلى الله عليه وسلم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما تظنون أني فاعل بكم قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم. قال: أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء وها هي هند بنت عتبة مؤججة حرب أحد الشهيرة على الرسول صلى الله عليه وسلم والملقبة بآكلة الأكباد والمتخذة قلائد من الأجساد المؤمنة تأتي إليه بعد الفتح تعلن اسلامها فيقبله منها كما قبله من أبي سفيان رغم ما لقيه الرسول منه من الأذى ثم يأتي وحشي بن حرب قاتل حمزة عم الرسول ليعلن اسلامه ويستمع منه حادث اغتيال عمه حمزة فما يزيد على قوله: (غيب وجهك عني). في حين أنه يستطيع أن ينتقم لنفسه ولأصحابه لكنه صبر واحتسب أجره على الله. هكذا تتمثل الرحمة في شخصيته إلى أبعد معاني حدود الرحمة والعفو عند المقدرة سجلها التاريخ على صفحات من نور.
وكفى به رحمة أن الله أرسله إلى الناس كافة. فغير مجرى الحياة الجاهلية من عبادة الجماد إلى عبادة الله وحده لا شريك له. فحارب الجهل بنور الاسلام والظلم بسلطان العدل وجمع تلك الأمة المتفرقة والمتشتتة بين الشعاب والهضاب تحت لواء «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وجعل منهم فاتحين وقادة أمم وساسة شعوب وصدق الله العظيم حيث يقول: {فّبٌمّا رّحًمّةُ مٌَنّ اللَّهٌ لٌنتّ لّهٍمً ولّوً كٍنتّ فّظَْا غّلٌيظّ القّلًبٌ لانفّضٍَوا مٌنً حّوًلٌكّ فّاعًفٍ عّنًهٍمً واسًتّغًفٌرً لّهٍمً وشّاوٌرًهٍمً فٌي الأّمًرٌ فّإذّا عّزّمًتّ فّتّوّكَّلً عّلّى اللَّهٌ إنَّ اللَّهّ يٍحٌبٍَ المٍتّوّكٌَلٌينّ}.
|