لطالما كرهت أن أسير بين تلك الأروقة البيضاء.. القاتمة.. ذات رائحة المعقمات الكريهة.. ما زلت أواصل سيري.. وأخيراً وصلت.. وقفت أمام الغرفة الزجاجية.. بدأت أنظر إليه وهو يتوسد جراحه.. التفت يمينا وشمالا من خلف الزجاج محاولة لايجاد شاشة ما توحي بخطوط عنكبوتية تشير إلى نبضاته الخادعة.. كنت أنتظر قرار الحياة به.. أما أن يعود ويفتح عينيه.. أو يكون إسدال أجفانه آخر حركة له.. أشعر ان عينيه بدأت ترتعش .. هذا يوحي حتما باستيقاظه.. دخلت.. ووقفت إلى جانبه.. فتح عينيه.. ابتسمت له.. ثم سألني:
- أين أنا؟؟!!..
- لا تقلق.. أنت في العناية الفائقة.. وسوف يقومون بنقلك إلى الغرفة بعد قليل...
التفت إلى الباب لسماعي صوت يوحي بشخص ما خلفه...! أي الدكتور.. ذهبت إليه.. وسلمت.. ثم سألته عن حال أحمد.. فهز برأسه مطمئنا: لقد تمكنَّا بنجاح من زرع الجهاز في قلبه..
- دكتور.. هل لي بسؤال؟؟!!
- تفضلي..
- الآن.. لن يعيش من دون الجهاز.. أهذا صحيح؟؟!!
بدأت عيناه تجوب الجدران.. ثم تنهد وقال:
- بالتأكيد.. ولكن تأكدي ان الجهاز ليس سوى كائن مساعد لضربات قلبه البطيئة.. ثم تابع وقال: مهمتنا انتهت عند هذا الحد.. نترك لك بقية المشوار...
- ماذا تقصد؟؟!!
- أي ان حالته النفسية لن تكون على ما يرام فحاولي كبح جماحه..
شكرته.. ثم عدت إلى ذلك الصمت وتلك الرائحة في الغرفة.. صمت مضجر يلف المكان.. لا يخترقه سوى انين الأجهزة.. كان ينظر إلي بنظرة غريبة.. نظرة شزرة.. وكأنه سمع الحوار الذي دار بيني وبين الدكتور.. تنهد.. ثم التفت إلى الجهة الأخرى ثم ضحك بحسرة اكتواها وقال:
- أما زلت هنا؟؟!!
استغربت سؤاله الذي أصابني بشيء من التجريح بكرامتي..
- ما الذي ترمي إليه؟؟!!
- ........ أما زلت تتذكرين أن هناك شخصاً على قيد الحياة اسمه أحمد؟؟!!
- أحمد كفاك هذياناً.. ما زلت تحت تأثير المخدر.. انتظر حتى تهدأ قليلا وتصحو كلياً.. ثم قل ما شئت...
لا تحاولي التعامل معي وكأنني طفل صغير لا عقل له.. إنني أدرك كل شيء.. نعم كل شيء هنا.. ماذا تريدين مني الآن؟؟!!.. ماذا تريدين من رفاة ممدد على سرير أبيض وعر مخدوع بدم يجري ببطء متخاذل.. وضربات سريعة منتهكة للطبيعة.. لقد انتهت حياتي عند هذا الحد.. أنا الآن من الأموات على قيد الحياة لم يبق مني سوى جسدي الهالك وأدمعي الثائرة كنهر مأساة.. قلبي ومات.. عقلي وجن.. ما الذي تنتظرينه؟؟!!
- ...........
- اذهبي.. أكملي مشوار حياتك.. ولكن مع قلب متجدد لشخص ما زال يتنفس النقاء..
وقفت مذهولة أمام هذا الكم الجارف من الشكوى.. والأسئلة الخالية من فراغات جزئية لأجوبة محتملة.. صرخت به فجأة...
- ما الذي حصل لك؟؟!!.. هل غيروا عقلك بدلا من قلبك؟؟!!.. يا لقساوتك..!!.. لقد كنت على جمر متقد أثناء العملية وكنت متيقنة من قرار اتخذته ووعدت نفسي العاشقة به.. ان لم يسكن الجهاز في أحشائك.. فسأهديك قلبي لتكمل ما تبقى لك من حياة.. لكي.. حتى وان لم تملك جسدي يدب بالحياة فستحوي أغلى عضو أمتلكه.
تسمر في مكانه.. ثم عاد وفتح فاه ليطلق مزيدا من الكلمات.
- ها أنت قلتها.. يا لقساوة قلبك.. أتعلمين لماذا؟؟!! لأنه لم يعد ملكي..!! حياتي الآن محصورة بين يديه.. ان شاء اكملت .. وان لم يشأ أوقفني عند هذا الحد من حاضري.. إنك لم ولن تفهمي معنى أن تكوني تحت سيطرة الكتروني خارجي.. لا تعلمين متى سيتوقف..
عند هذا الحد صرخت.. مطالبة بالاكتفاء بما سمعت من تجريح لم تعد كلماتي ملكي الآن.. بل كل شيء هنا لم يعد يحلم بالدخول إلى عالمي.. كل شيء هنا ضدي ومعه.. حتى تلك الرائحة الخبيثة ما زالت تتحداني بطعمها المر.. توجهت صوب الباب .. ثم تراجعت والتفت إليه وتمتمت بكل قساوته هو نفسه لم يعلنها قائلة:
- أعظم ذنب اقترفته في حياتي.. أنني أحببتك....
|