لم تشعر يوما أنها تكره المرآة مثلما تكرهها في هذه اللحظة بالذات.. . تتسمر أمامها كالمبهورة.. تدنو منها تطل في انعكاسها تبحث في تفاصيلها.. تتفحصها.. تقلب في جوانبها.. تحركها حولها لتجعلها تطير كالفراشة.. تحط حينا على الجانب الأيمن.. وحينا على الجانب الأيسر.. تدور حينا فوق رأسها.. وحينا أسفل ذقنها.. ولكن لا فائدة.. هي تكرهها.. أعلنت عليها غضبها.. وأبغضتها.. رمتها على الأرض بقوة.. تناثرت أشلاؤها في كل زوايا الغرفة.. وقفت واجمة مترددة.. اقتربت من قطعة قريبة منها.. انحنت إليها وحملتها في كفها.. آلمتها حدة جوانبها.. قرّبتها من وجهها.. وأخذت تعد كم خطاً ارتسم تحت عينيها وعند جوانب فمها وفي مقدمة جبينها.. ارتجفت دهشة وخوفا.. شدت بيدها بقوة على المرآة.. أحست بألم أكبر.. دققت فيها أكثر.. ذلك الاسوداد اللعين مازال يرتسم تحت عينيها المنتفختين.. وذبول وجنتيها مازال يعكس عمرها الحقيقي.. وعت إلى عمرها الحقيقي.. تذكرت أرقامه البغيضة.. أحست بها ثقلا حديديا يسقط من سماء مجهولة فوق رأسها.. صدمت.. شدت بيدها أكثر على المرآة.. أحست بنزيف بين أصابعها.. وسقطت قطرة من دم أحمر فوق بقايا مرايا محطمة حولها.. في غرفة تلوث جوها بالنحيب والإحباط.
***
كانت تجلس في مكتبها كالعادة.. تراجع بعض الأوراق وتصحح بعض الاختبارات.. دخلت طالبة بلا استئذان.. بخفة ومرح وهي تمضغ علكة في فمها بميوعة ودلع قالت:
- دكتورة! عسى ما شر؟ وجهك يبدو شاحبا.. ! ابتسمت كعادتها وردت بهدوء وهي تنزع النظارة من وجهها لتكشف انتفاخا تحت عينيها:
- الدوام وتعب الدوام.. !
- لالالا يا دكتورة.. هذا الوجه الجميل لا يجب أن يغطيه اصفرار المرضى وهاتان العينان الواسعتان لا يجب أن يهلكهما الانتفاخ وتختبئان وراء النظارات الثقيلة..!!
رفعت عينيها عن أوراقها ونظرت لتلك التي تغرق في شبابها ونظارتها وتحاول أن تأخذ وتعطي معها.. سرى في داخلها تذمر سريع.. ولكنها تداركت نفسها وأخذت تتفحص الفتاة الواقفة أمامها.. هي تراها للمرة الأولى.. أو ربما رأتها من قبل.. فطلبتها في الجامعة كثر.. ربما هي من تلك النوعية من الطلبة الذين يطبقون سياسة التقرب من الدكاترة للفوز بدرجات أكبر.. سمحت لنفسها بأن تعطي الطالبة فرصة أكبر بالكلام لتصل معها إلى هدفها المنشود.. ثم تسمح لها بالانصراف لتعود إلى ما كانت منكبة عليه من أوراق وامتحانات.. أردفت الطالبة وهي تتمايل في جسدها الرشيق كزهرة طال غصنها وتفتحت أوراقها فتتلاعب بها نسمات الريح بعذوبة حتى سرت في داخلها غيرة خفيفة على هذه الطفلة التي أصبحت اليوم طالبة من طالباتها، قالت الطالبة:
- شخصية بارزة ومعروفة مثلك يجب أن يكون لها Look جديد.. منظر خلاب.. يشد الناس.. فأناقة المرأة تعكس شخصيتها.. صحيح حضرتك مشغولة دائما بعملك ومهامك كدكتورة جامعية وشخصية اجتماعية معروفة.. ولكن التأنق مطلوب أحيانا..
كلماتها كانت كإبرة ناعمة وخزت كل ذرة في جسدها فأحستها ألما فظيعا يسري داخل أوردتها. أقسى شيء بالنسبة للمرأة أن تنتقدها امرأة في أنوثتها.. في أناقتها.. في شكلها، وبغض النظر عن عمر المنتقدة إن كانت امرأة من سنها أو طفلة مثل هذه التي تقف أمامها.. أضافت الطالبة:
- نصيحة مني لك يا دكتورة.. اهتمي بنفسك جيدا.. ولا تكثري من السهر..!
انصرفت.. بينما بقيت هي مع بقايا كلمات نبتت من حولها أشواكا وجروحا.. تنزف وتنزف.. وأحست بحنق شديد.. حتى لدرجة أنها كرهت نفسها.
***
في جلساتها مع الزوج لا تتجرأ أن تفاتحه بموضوع مثل.. كيف هو شكلي بعد خمسة وعشرين عاما من الزواج؟.. دكتورة جامعية بمثل مكانتها لا يجب أن تفتح حوارا تافها مع زوج بمكانة زوجها.. رجل أعمال واع ومتفتح ولا تلهيه مثل هذه المسائل التافهة.. خاصة وأن الأبناء كبروا.. وتزوجوا.. وأصبحت جدة.. قالت لتكسر حاجز الصمت حول وجبة الغداء الخرساء.. حتى كادت تسمع صدى صوتها يترنح في أرجاء الفيلا الفخمة:
- قررت الاشتراك في معهد صحي للتجميل.. تضييع وقت لا أكثر!
هز برأسه دون أن يتبرع بنظرة صغيرة إليها حتى.. وهمهم مؤيدا قرارها الذي في نهاية الأمر.. لن يؤخر أو يقدم عنده شيئا.. ابتسمت على مضض واحباط صغير.. يشل زوايا فمها عن الابتسام.
عشقت مجلات الأزياء.. أصبحت مدمنة لأخبار الموضة والتجميل.. معاهد الرياضة والتخسيس أخذت كل وقتها.. صالونات التجميل أصبحت جزءا من يومها.. وعالمها. وبعد فترة عادت للمرآة.. صدمها الواقع... إنها لم تتغير البتة.. لم تختف التجاعيد التي أخذت بالتكاثر والازدياد.. لم ترحل تلك الانتفاخات اللعينة من تحت عينيها.. ولم يعُد الشباب إلى محياها من جديد..!.. فزعت.. قلقت.. فكرت بحل.. . وكان لا بد لها من زيارة لبعض ممن لهن اهتمام في هذا الأمر..
***
لطالما انتقدت الأخريات ممن يقربنها بالسن والمكانة والوضع الاجتماعي.. تذمرت من سفراتهم المتكررة لباريس والشيك لعمل عمليات الشد والشفط.. لطالما حاولت نصحهن ولكن عن طريق المداعبة.. قائلة:
- يا جماعة أصبحتن جدات..!! ولكنها تجلس في المجالس النسائية بحثا عن شيء خفي.. عن سر التأنق.
والشباب الدائم الذي يعشن فيه.. بشرة هذه وتسريحة تلك.. فستان هذه وحقيبة تلك.. أشياء لم تكن لتراها من قبل ولكنها تلتهمها بنظراتها الفاحصة اليوم. كان تفحصها ناجحا في اصطياد أبسط التفاصيل.. ولكن بالتأكيد ليس كنجاح تلك التي تجلس إلى قربها متفحصة الفرق بينها وبين الأخريات ومتابعة اهتمامها في البحث عن كل ما هو جديد في هذا المجلس الأنيق، اقتربت منها.. همست لها:
- جلسة واحدة لا تكفي لتكشفي كل الأسرار.. !
ابتسمت مرتبكة.. واضطربت حين أحست بانتباهها لها.. فسألت:
- كيف يفعلن كل هذا في أنفسهن ؟
- الأناقة شيء مطلوب من كل سيدة مجتمع راقية.. لا أقلل من مكانتك ولكنك فعلا بحاجة للعناية بنفسك..
- جربت كل شيء.. معاهد التجميل.. معاهد الرياضة.. تابعت الموضة بحذافيرها.. جربت كل مساحيق التجميل.. لم ينفع شيء !!
وضعت في يدها ورقة صغيرة.. ولكزتها بسرعة وهي تمشط بنظرها المكان من حولها.. همست بحذر:
- الحل في هذه الورقة.. سيدة ممتازة وستفيدك.. خدماتها للناس لا تفشل أبدا.. أفادت الكثيرين صدقيني..
دست الورقة سريعا في حقيبتها.. ابتلعت ريقها مرتبكة.. وبنظرة أخيرة للمرأة عرفت أنها جادة فيما تعنيه.
***
في بيت تقشرت حوائطه والتهمت الديدان بعضا من أطراف أثاثه جلست توترة بإيشارب يلف رأسها ونظارة سوداء لا تفارق وجهها، كانت تجلس امامها.. بشعر أشعث تسلل من تحت غطاء رأسها وعليه بضع آثار قديمة لحناء أحمر داكن أبرز متاهات وجهها التي صنعتها الخطوط المتشابكة هنا وهناك، كانت تتكور كالجنين في رحم أمه.. أمامها أدوات غريبة.. . بخور.. فحم.. تراب.. أوراق وطلاسم.. تمتمت بصوت مبحوح أحست به يصدر من الحوائط التي تحيط بها وليس من هذه العجوز ذات الشعر الأحمر، وقالت:
- مشكلتك لا حل لها إلا القمر.. !
رفعت حاجبها هازئة وهي تهمس في سرها (غبية.. أي نوع أنا من دكاترة الجامعات المثقفات التي تحضر مجالس الدجل هذه؟..) تمنت لو تخرج الآن.. ولكنها أضافت قائلة.. وهذه المرة كانت متأكدة من أن الصوت يصدر من الحوائط وسقف الغرفة وليس من العجوز:
- عطر القمر يا ابنتي حل لمشاكل العديد من النساء.. فكم من عقيم حملت.. وكم من قبيحة تجملت.. وكم من عانس تزوجت ؟!.. حلك يا ابنتي في عطر القمر..
تساءلت وهي تهز كتفيها ساخرة وضحكة لعوب تكاد تفلت منها:
- وأين يباع عطر القمر هذا ؟!..
أشارت لسقف الغرفة بإصبع طويل ومجعد وقالت:
- هناك.. في السماء.. حيث يعيش القمر في مملكته.. ضعي زجاجة خاوية من عطرها تحت الشمس لمدة عشرة أيام.. ثم بعدد لياليها ضعيها على حافة نافذة غرفتك.. وإياك إياك أن يعلم بأمرها زوجك.. فإن علم فسدت.. وبعد عشر ليال ستمتلئ الزجاجة بعطر القمر.. وهو عطر خفي لا يرى ولا يُشَم ولا طعم له.. بمجرد أن تفتحي الزجاجة وتمرريها على جسدك سيعود الشباب إليك.. وستشكرينني عندها كثيرا وستأتيني بالمقسوم إن شاء الله..
تفحصتها من وراء سواد نظارتها لبرهة وهي تفكر في نفسها.. بماذا تخرف هذه العجوز؟ عطر خفي للقمر يعيد الشباب لامرأة تجاوزت الأربعين مثلي؟.. فكرت مليا.. ثم عادت وعدلت عن قرارها.. وسمعت صوتا في داخلها يقول: وما الخسارة من التجربة؟ لنجرب.. !
**
اليوم تنتهي الليلة العاشرة.. الليلة ستفتح الزجاجة.. وسترى إن كان مفعولها سيجدي نفعا أم أنه تخريف عجوز تتوهم القدرة على صنع المعجزات لا أكثر ولا أقل. تقدمت نحو نافذتها.. فتحت الزجاجة.. أدنتها من أرنبة أنفها.. استنشقتها.. لم تشتم أي شيء له رائحة مميزة.. وتذكرت كلام العجوز.. «عطر القمر لا رائحة له ولا لون ولا طعم».. وحركت الزجاجة حول جسدها.. تبخرت ببخور سحري خفي.. سكبت العطر الخفي على وجهها.. على ذراعيها وكل جزء من جسدها.. وانتظرت.. وماكادت تنتظر حتى غلبها النعاس.. ونامت.
***
كان الصباح قاتما أصفر خريفيا بانتظارها.. فتحت عينيها بتثاقل.. وسحبت جسدها سحبا من فوق سريرها.. تقدمت نحو المرآة الصغيرة.. احتضنتها بين يديها.. قلبتها من جميع زواياها.. حركتها حول نفسها وجعلتها تحلق كالفراشة فوق رأسها.. تبحث عن تأثير السحر.. تبحث عن ملامح عطر القمر ونتائجه عليها.. لم تجدما يبشر بشيء.. فلم تشعر إلا بأشلاء من الزجاج تتناثر حولها.. ودموعها تسيل على تجاعيد ارتسمت في كل مكان من ملامحها.. وسقطت منهارة فوق بقايا مرآتها.. بينما صوت خفي تخيلته يتسلل من بين جدران غرفتها الصفراء يشبه صوت العجوز تلك يقول :لا تيأسي.. فربما للقمر.. عطر آخر..
|