هَمٌّ اختلج في صدري وتعاطاه فكري منذ فترة ليست بالقصيرة، إذن له ولي وللآخرين ان نتعامل معه بفاعلية أقوى وأجدى.
صرخ الأب العامي «أوجع راسي هالولد بكثر أسئلته».
يعلل أحدهم هذا التصرف بأنه تميز في عقلية وشخصية الابن.
فيرد على المتكلم: أدري بس ذبحني!!.
الأب في البيت لم يستوعب الخصائص السلوكية لهذا المتميز ومنها كثرة أسئلته، وهي سمة متوافرة في أصحاب المتفوقين وفي الغالب هم متفوقون دراسياً.. ويميل الطالب المتفوق عادة إلى حب المناقشة والتعبير عن أرائه هذا إلى جانب دقة الملاحظة وسرعتها في الدول المتقدمة كأمريكا هناك اهتمام متزايد بالطلبة المتفوقين، وأجريت عليهم الكثير من الدراسات، وزادت البرامج التي تهدف إلى توفير الخدمات التربوية الخاصة بالمتفوقين عقلياً. ويمكن تصنيف الأساليب المطبقة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى ثلاثة أنواع.
أولا: التجميع:
أ التجميع عن طريق إنشاء فصول خاصة بالمتفوقين.
ب التجميع عن طريق إنشاء مدارس خاصة.
ج التجميع عن طريق إنشاء العزل الجزئي.
ثانياً: الإسراع:
ويقصد به السماح للمتفوقين عقلياً بان يقطعوا المرحلة الدراسية بسرعة أكبر من السرعة العادية، وهناك عدة أساليب لتحقيق ذلك من أهمها:
أ القبول المبكر.
ب تخطي الصفوف.
ج ضغط عدد الصفوف في المرحلة الواحدة.
ثالثاً: الإثراء:
ويقصد بهذا الأسلوب اختيار أنشطة إضافية يمارسها المتفوق حتى تساعده على تنمية مهاراته العقلية ومواهبه بكفاءة. وأهم هذه الأنشطة:
فهم المواقف المعقدة. استخدام أسلوب حل المشكلات.
ابتكار أفكار جديدة. الربط بين المفاهيم الأخرى.
تقديم الحقائق عن طريق الاشتراكات في نقاشات نقدية.
استثمار الطاقات العقلية المتميزة مطلب حيوي حيث يوفر الكثير من المال ويختزل الكثير من الوقت في تحقيق الإنجازات. كما هو معروف للجميع فان التلاميذ يختلفون فيما بينهم اختلافاً واضحاً في القدرات والاستعدادات والميول ومستوى الذكاء.
والتربية السليمة هي التي تأخذ في الاعتبار هذه الاختلافات وتوجه كل تلميذ نحو تحقيق أقصى درجة من النمو تسمح به قدراته واستعداداته، وهذه من ضمن أهداف نظامنا التربوي والتي تنص على إعطاء الفرصة لكل فرد منهم لكي ينمي مواهبه وقدراته الفكرية، فتنمية كل فرد هي استثمار حقيقي للثروة البشرية الموجودة في المجتمع. وتزويد الفرد بالمعارف والمهارات التي تناسبه وتوجيهه الوجهة التي تتفق مع ميوله واستعداداته يضمن له قدراً من النجاح يعود عليه وعلى مجتمعه بالفائدة، وحقيقة معلومة لدى الجميع ان المتفوقين متميزون بصفات شخصية عقلية مختلفة عن أقرانهم، ويمتلكون طاقات متميزة تجعلهم لا يحصرون اهتماماتهم في مجال واحد بل في الغالب يميلون إلى أكثر من مجال ولديهم استعداد لممارسة أكثر من نشاط إلى جانب ما يتميزون به من قدرات عالية مثل سرعة التعلم والقدرة على الاستنتاج والاستدلال بصورة تفوق أقرانه، فهو لا يحتاج إلى التكرار وإعادة الشرح كضرورة يلجأ إليها المعلم في كثير من الأحيان نظراً لتباين قدرات التلاميذ.
هذا إلى جانب تفضيله التعليم الذي يعتمد على التفكير أكثر من التعليم الذي يعتمد على التذكر، ولديه قدرة على التوصل إلى الحل بطرق مختلفة وعديدة، كما لدى المتفوق درجة عالية من حب الاطلاع في مجال اهتماماته العلمية بشكل واسع.
لذا يجب ان تشجع المناهج وطرق التعليم هذه المميزات.
نعود لحيثيات تعبير الرجل العامي على سلوك ابنه في كثرة الأسئلة.
ألا يحق لنا أن نتساءل من يجيب عن أسئلة الطالب المتفوق؟ من يعزز هذا الذكاء؟ وكيف تفجر طاقاته في الجانب الإيجابي خاصة مع تحييد البيت نفسه عن هذا الدور في غالب الأحوال؟.
ألا نخشى ان يكون استيعاب هذه القدرات وتقديرها وتفريغها في المكان الذي يفضله مستثمروها في المجال السلبي الذي يضر بالمجتمع والفرد في آن واحد؟.
ألا يحق لنا ان نردد هنا المثل المشهور «الوسيلة خير من العلاج؟.
أرى بالضبط ان المؤسسات التربوية جديرة بهذا الدور، وواجب من أهم واجباتها فلا بد ان توفر كواد بشرية تجيد التعامل مع عقلية ونفسية هذه الفئة بمهارة ووفقاً لمنهجية علمية. ونؤكد بحتمية المطالبة بتوفير جو تربوي مثالي لهذه الفئة. ولأن ذلك يتعذر توفره في كل المؤسسات التعليمية، ففي أحدها يتحقق الهدف.
لا بد ان يكون هناك محضن تربوي يحتوي أولئك ويفجر طاقاتهم.
ممارسو التدريس يدركون أكثر من غيرهم كم هو الوقت النفيس الذي يضيع على الطالب المتفوق في الفصل دون جدوى يترقب خلاله انتهاء أصحاب التحصيل المتوسط والمتدني. فمثلا في حصة الرياضيات يستطيع بعض المتفوقين حل المسألة في ثوان بينما زميله الآخر في الفصل يحتاج إلى عشر دقائق!!!
ولذا هناك هدر تسع دقائق من حق الطالب المتفوق ومن حق مجتمعه استثمارها.
تسع دقائق في مسألة وفي أخرى يتضاعف الوقت الضائع.
إنها فر وقات جسيمة تؤلم ذات المتفوق وتصب في جانب ظلمه بإهدار وقته فضلا عن عدم استغلال عقليته الاستغلال الأمثل.
ليس هذا فحسب بل ان الطالب قد يتعرض لعقوبة عدم الانتظام في الفصل أو يدفع ثمن عشق المعلم لصمت الطالب حين لا يحتمل حركته في الوقت المهدر !!
ولأن الشيء بالشيء يذكر فنحن نعرف ان في جل محافظات المملكة هناك محضن تربوي لفئة التعلم البطيء ومتدني الذكاء وهي المؤسسة التربوية الرائعة «معهد التربية الفكرية» وهي خطوة رائدة تذكر فتشكر لوزارة التربية والتعليم.
وهي ذاتها من يؤمل منها رعاية مرتفعي الذكاء أو المتفوقين دراسياً على الأقل، وهناك تجربة وحيدة في المملكة العربية السعودية تصب في هذا الجانب وهي «مجمع الأمير سلطان للمتفوقين في بريدة» وهي تجربة رائعة وفكرة تحتذى ابتدعها مدير عام التربية والتعليم بمنطقة القصيم. الأستاذ صالح التويجري لا حرمه الله أجرها ومتعنا وإياه بفضلها وبركتها.
تجربة تمر في عامها الثالث، وقد حققت العديد من النجاحات، كما عبر عن ذلك كثير من التربويين الذين اطلعوا على التجربة عن قرب، ولا يزال المؤمل فيها الكثير.
وهي تحتاج إلى دعم وزارة التربية والتعليم وهي المعنية بالأمر، ابتداء من اعتمادها ومروراً بدعمها وانتهاء بتعميمها.. وهي تحتاج إلى سياسات خاصة تتناغم مع سياسات رعاية المتفوق المعروفة عالمياً، وتتطلب مناهج تحوي مفردات تعليمية مختلفة عن المناهج الدراسية السائدة، وكذا تحتاج إلى كادر تعليمي متخصص في مجال التفوق.
ولا بد ان يتوفر في هذه المدارس كامل الإمكانات المادية من الأجهزة والتأثيث والمناشط التربوية والوسائل التعليمية بقدر يعطي لنا مخرجات طلابية مميزة، وتكون هذه المدارس مصانع إنتاج المبدعين والمميزين. ولا بأس ان تمول ذاتها.
|