قد نحتاج إلى وقت طويل لتفسير معاني السياحة التي يجب أن نستثمرها وننطلق بشكل مدروس من أجل تقديمها للمستفيد فهناك من يرى أنها كلمة يجب القضاء عليها وهناك من يجهل كنهها؛ فهي مفهوم متعدد وواسع الدلالات؛ فمن ذلك أن هناك من يعتقد ويظن أن مفهوم السياحة المحلي يجب أن يكون انقلابا على الأعراف الاجتماعية لدينا وهذا اعتقاد وفهم خاطئ؛ بل يراه البعض وللأسف أنه من الظواهر الغامضة والمشبوهة التي يجب التعامل معها بحذر.
من هنا بات من الضروري أن تنطلق السياحة من مفهومها المحلي؛ الذي يمكن له أن يُفعَّل وتُدْرس جدواه دون تغيير في نمطه أو إخلال في هويته من أجل أن يكون ملائماً ليتقبله الآخر؛ والسياحة المحلية تختلف من منطقة لأخرى إلا أنني هنا أود أن أقف على حقيقة محددة تتلخص بالبراري الشاسعة لدينا كالصحراء والجبال والسهول القفر؛ فلو توفرت أدنى متطلبات الحياة ستكون الرحلة البرية غاية في الفرادة والتميز لأن القادم من خارج حدود وطننا يبحث عن شيء مختلف يضيفه إلى عندياته؛ لذا من الضروري ان نتمسك بهوية مشروعنا المحلي ونمنع عنه فكرة التحوير والتعليب والتحديث المخل.
هنا سأروي لكم بوحاً سردياً يفتش في تفاصيل تلك الأماكن التي يجب أن نقدمها للآخر من أجل أن نجذب الاهتمام إلى عوالم الريف البكر.. تلك الصحراء التي تحتاج إلى مزيد من الاكتشاف رغم وضوحها في الهواء وتحت الشمس والمطر.. فهاهو النص يأتي متأملاً «الغَضَاة».. تلك المنطقة البكر من بلادنا:
«يتراخى الرمل أمامنا ندياً وادعاً بعد ان أثخنته نبال المطر الهامي لليالي أمس وما قبلها.. «جُبْة» في أحضان جبلها الأشم تودعنا في رحلة شمالية. تحركت أغصان أشجارها ولوح سعف نخيلها مودعاً.. تَلَثَّمنَا كما يفعل أهل الرمل تماماً. خفضنا الهواء في إطارات سيارتي الجيب المحملتين بعتاد رحلتنا نحو «الغَضَاة».
لم يُعاندنا الرمل كثيراً كعادته؛ ولم تشاغبنا الرياح لأن المطر قد غمرها بفيض كرمه؛ ودفء مودته بعد قطيعة وعطش تواصل لنحو عام. «جهاز النداء» يتداخل مع أصوات أخرى لكنها أقل فوضى؛ وأكثر تهذيباً. أصوات رجال الفلاة تستفسر «وتَنْشُدُ» عن الإبل والرعاة والمطر والفقد والرحلات المتوقعة هنا وهناك. تميز صوت (مكاري) وهو يذكرنا وبعبارة تاريخية شهيرة «الغَضَاة» أمامنا؛ وبحر الرمال حولنا.
نقطع المفازة، نتلفت في كل الجهات المتشابهة دائماً... لا شيء غير الرمل؛ (أبوعلي) هو من يستطيع أن يميز الجهات ويعرف اسم كل كثيب و«طعس»: على يميننا هناك عرق «الغُبيَنَات». وهناك نازية الأرطى؛ وقاع العطش؛ وأخاديد أخرى في الرمل المعاند.
يذكرنا (جبهان) بأن لأهل الصحراء طقوساً خاصة ونظرة فاحصة يجب علينا التعامل معها بروية.. قلة الحديث والاقتصاد في الأسئلة والهدوء الذي ترسمه الصحراء على معالمها هنا.
من فرجة زجاج السيارة الجانبي يدلف إلينا الهواء البارد مخلوطاً بعبق الرمل والمطر وأشجار الأرطى والعرفج والعاذر والغضا..
نعم.. «الغضاة» -موردنا ووجهتنا- ينتسب اسمها وولاؤها إلى هذا النبات الرملي الفائق عتقاً وفطرية، إلى اليسار يشير السائق (جبهان) وهو يحدث السائق الآخر (مكاري) أن هنا ربيع مبكر.. نتوقف؛ لنشاهد عشبا بريا يستيقظ قبل قَرَصات «المربعانية» ليطرب العابرين ويَعِدُ الرعاة وأهل الحلال بفأل بموسم خير ورغد.
السيارة يخفت حنينها في المسير نحو «الغَضَاة».. (أبوعلي) المتمرس في الصحراء والرمل الذي ينتسب إليه وأهله من أمد يخبرنا بأنه يكتنز الماء لذا تتماسك الرمال لتسهل الحركة والمسير فوقها. أرخى الرجل لثامه؛ حدق بنا وهو يؤكد ان الإبل تطرب في المسير في هذه الأوقات وتكمل رحلتها بسهولة ووقت أقصر.
وجه «أبي علي» يبدو عليه التجهم خصوصاً عندما يروي التفاصيل الأليمة عن الرمل وأهله: في ذاك «العرق» مات فلان. وفي الآخر افترست السباع ماشية ابن فلان؛ وبتلك النازية كدت أن أفقد حياتي من فرط الظمأ حينما كنت أحطب «الأرطى»؛ لكن روح الرجل لا تلبث أن تعاود غناءها وتفاؤلها؛ ليمازح من حوله بلباقة تكشف روعة ابن الرمل والفلاة..
(لويفي) لا يكف عن المشاكسة في السيارة؛ بل «يُغَابِشُ» السيارة الأخرى عبر «جهاز النداء»؛ فهو يدرك بفطرته ان الرحلة يجب ان تكون مقطوعة بالأحاديث والغناء.. ولإنجاز دور المقولة غنّى الرفاق لقطع الفلاة. نشيدهم شجي يذكرهم على نحو فاتن بعوالم الصحراء التي تعاند الفناء.. «الغَضَاة» هي مركز الجذب لنا.. ترى كيف تكون تلك الأرض التي نقطع المسافات من أجلها ونغذ السير إليها بشوق.
المناداة لا تكف وغناء «الهجيني» أو «المَعْج» يتواصل ويختلط بالمعايدة؛ والسؤال عن إبل تتحرك بلا رعاة؛ وعن «السيول» الجارفة ليل البارحة. لا ترى في المفازة القفر سوى آثار السيارات العابرة بعد المطر؛ والإبل الغادية والرائحة.
(مكاري) يشير إلى قرب الوصول إلى الفردوس البعيد.. «الغضاة» على مرمى البصر.. أين يا فتى الرمال حلم الرمل..؟ أين غَضَاتُك التي لا تمل الحديث عنها..؟
قلت لنا إن «شِفَاقَه» هناك يعد مأدبة العيد للضيوف من حائل والقصيم والزلفي والمدينة ومدن أخرى.. يا لهذه «الغضاة» التي تشد أنظار أهل الرمل.. سترى يا (جبهان) وجه «أبي علي» وقد ازدان بابتسامات الفرح حينما نحل في الوطاة؛ في ملتقى «الأرطى» مع «الغضا».
حياة في أعماق النفود أمر فائق الصعوبة لكن هناك «الرمال».. هؤلاء الذين ينتسبون إلى المفازة والصحراء هم من يتقنون فن الحياة والتعايش مع تحولات الحياة في تلك الأماكن العابقة بالفطرية والهدوء.
تراءت لنا معالم حياة في الأفق البعيد.. قال لنا (مكاري) إنها «الغَضَاة» هناك على صفحة الرمل تخفق بالتحية؛ وتلوح للعابرين بالمودة. تستميلهم للمجيء. اقتربنا منها تخف مكابدة الرمل ونستعد لدخول معالم الرمل النابض بالحياة حيث «الغضاة» هنا.
***
يخفت حنين السيارة حينما ظلت ولساعات تكابد كثبان الرمال الوعرة، نطل من هامة الرمل على بناء مسلح أبيض يخفق في الفلاة؛ وقصبة مدورة طويلة وداكنة تنغرس في الرمل المنبسط قليلاً، بيت شعر وخيام ومورد ماء كبير، نقترب أكثر لتقترب الحياة المثابرة.
هاهي «الغَضَاة».. يمسد «جبهان» لحيته وهو يشير إليها: هذا المسجد بناه «شِفَاقه بنْ رِمَال» جزاه الله كل خير؛ فيما صاح «مكاري» (تُشفون خزان الماء، والمُضِيفْ.. الحمدلله على السلامة)، فيما لاذ «أبوعلي» و«لويفي» في حديث ثنائي لايخلو من مشاكسة معهودة بينهما.
ترجلنا من «السيارتين»، رحب بنا «شِفَاقه».. شابٌ رمليٌ تقرأ في عينيه حب الحياة والعناد والإصرار وإلا ما بذل كل هذا الجهد في أعماق النفود ليحفر البئر ويوفر الماء للبدو ومواشيهم؛ ويؤم المصلين ويرحب بالضيوف ويقدم القرى للعابرين في الفلاة صوب «السُرَّة» و«عُلَيْمِ العَطَشِ» و«الجوف» وأماكن أخرى، تناولنا التمر وشربنا القهوة؛ وتجولنا في عالمه الجديد.. هذا الذي يعاند الرمل والظمأ.
«البئر» تضخ الماء العذب بسخاء، إلى جوار «خزان الماء» تنبت شجيرات الغضا، تشاغل عنا «شِفَاقه» حينما ذهب وعامله في أماكن متعددة من المكان يزرع شتلات الزيتون هنا وهناك؛ قلت في نفسي: فرصة مناسبة أن أتجاذب مع الرجل أطراف الحديث، سألته عن أسباب غرس الزيتون هنا؟ أليس الغضا أولى بالاستزراع «أبا راكان»؟ أجابني بهدوء وهو يشاغب الرمل بلسان محفرته: الغضا يا ابن أخي لا يقبل السقيا، أنظر خلفك؛ هذه الغضاة الكبيرة سقيناها وتهدلت وتهاوت إلى الأرض، لايمكن له أن يستزرع إلا بحدود بيئته الرملية.
لديه خطط وأحلام كثيرة تركناه يُعِدُّها بهدوء وتفاؤل وأمل، لنذهب غير بعيد عن «الغَضَاة»؛ وفي جوار شجرة أرطى عملاقة وضعنا متاعنا وقررنا المبيت والعشاء، تسامرنا ليلتنا على ضوء نار الغضا والأرطى؛ أنشد لنا «مكاري» بعض القصائد وجلب «لويفي» الحطب بسخاء؛ و«جبهان» صاح قبل نومه: (الله يهداك يا «مكاري» جبت لي «النقرس» بسبب شوائك.. أعطوني يالربع بانادول).. وفي الليل البارد والرطب وتحت وميض البارق الشمالي الساهر بِتْنَا، لم يقطع سكون ليلنا في الفلاة الصامتة والهادئة جداً سوى شَخِير «أبي علي» الذي يجذب فيه ألحان الغفوات الهانئة طالما أنه في هذه الفلاة البكر؛ بعيداً عن الصخب والضجيج الذي تخلفه الحياة هناك؟ في «جُبَة» و«أمُ القُلْبَان» و«القَاعِدْ» و«النيِصيَّة» و«حائل».
في الغبش الباكر صحونا وبأجواء مفعمة بالهدوء والندى والأمل و«العيد» صلينا الفجر وشربنا القهوة والشاي؛ لنصعد من جديد صوب مضافة «شِفَاَقه بن رِمَال» .. تناولنا القهوة وأخذنا أخبار المطر من العابرين، وقصيدة هنا ومَثَلٌ هُناك؛ وأحاديث جادة وراقية تبعث على الفخر والاعتزاز بأن هناك أماكن لا تزال تنبض بالحياة والوداعة والأصالة.
في «الغَضَاة» وفي كل أرجاء النفود الكبير الكل يرحب والكل يحاول أن يأخذنا صوب مضاربه (العيد عندنا.. تكفون يارجال وافقوا) لكن ذكاء «مكاري» ووعود «أبي علي» تجنب البقية الالتزام والموافقة؛ من أجل أن تكون الرحلة حرة نذهب فيها إلى أكبر قدر من الأمكنة في الفلاة.
ظل «شِفَاقَه» يتوثب كذئب وطأته حوافر الحذر يذهب ويأتي، يصوغ من «الغَضَاة» معنى جديداً للحياة المثابرة، هاهم الرجال يقطعون الفلاة خلف إبلهم؛ الرعاة خلف مواشيهم، أهل الحطب يلقون التحية ذاهبين وعائدين، الكل في «الغضاة» ينشد حلمه الجميل والمبهج.
نتوقف عند بيت شَعْرٍ شامخ في أعماق النفود قرب مَورد «السُرَّة» يحيينا صاحبه ويَعْبق من أرجاء المكان الترحيب الحار؛ تفوح رائحة القهوة المفعمة بالزعفران؛ ورجاء لا يكل بأن ننتظر «وجبة العيد» التي يعدونها لأهلهم في هذا الخلاء.. «العيد» حقاً يا أهلنا في «الغضاة» ان نرى وجوهكم البريئة؛ ونلمس هممكم التي تبعث الشعور بالأمان.
«الغضاة» 2 شوال 1424هـ
|