من أبرز الصفات التي يتحلَّى بها الفنان الصادق، الطيبة الزائدة عن الحد، حب الخير للجميع، عدم الاستقرار أو القلق الدائم ليس من أجل المال أو الجاه أو الشهرة، ولكن من أجل توصيل فنه، مهما كلفه ذلك من جهد وسهر، ثم بعد ذلك كثرة الآلام والأوهام والتشكي منها لطوب الأرض!
كنت أسمع أن الفنان الراحل طلال مداح كان مستعداً للتنازل عن أجره في أي حفلة، حال خروجه منها لمن يقابله شاكياً قلَّ المال ومرض العيال، وكان مستعداً لعدم الذهاب لحفل أو موعد مرتب له، لو وجد عن طريق الصدفة جلسة للطرب الجميل!
وقد مات طلال وبقي صوته الذهبي في الوجدان، وبقي حسابه في البنوك صفراً، لكن حسابه في أذواقنا وقلوبنا بالملايين.. إنه صادق الأداء، مخلص لحنجرته الذهبية، محب لعشاقه، للحد الذي يجعله يغني وهو يعرف أنه ربما فقد حياته لحظة الغناء وقد كان!
وعلى نفس طريق طلال مداح كانت فايزة أحمد، صوتاً رائعاً خالياً من العيوب، التي تخرج من الحنجرة أو الأنف، كانت تغني وكأنها تتحدث مع صديقة أو صديق، دون تكلف، إن صوتها يشبه سبائك الذهب، لامع وانسيابي، وسوف نظل نسمعها لسنوات وسنوات، ولسوف يعود الناس إليها، حالما تنقشع غمة الأصوات الحديدية، التي لا تنطلق إلى الناس بدون دعمامات من تلك التي يخرج جديدها كل يوم، ونراها في الاستديوهات الفاخرة ولدى مهندسي وشعراء الدرهم والدينار..!
كانت فايزة أحمد تبذل كل مالها من أجل تسجيل أغنية، وما بقي من مال كانت تدفعه لمن تعرف أنهم يحاربونها، وفوق ذلك كانت لا تجلس إلى كاتب أو فنان من عشاق صوتها إلا وتشتكي له جور الزمن ودسائس الأصدقاء والصديقات..
وقد كان ما تقوله حقيقياً، لكن الحقيقة أيضاً أن الوسط الفني والصحفي والسياسي، من أقذر الأوساط على الإطلاق، فالواحد من هؤلاء ينطبق عليه المثل الذي يقول: مثل الفريك لا يحب الشريك!
أما المثل الأدهى فهو عدوك ابن كارك! أي ابن صنعتك.. ومع ذلك فهناك فنانون وفنانات لديهم القدرة على السير في حقول الألغام، للوصول إلى هدفهم، وبفضل هذه الحقيقة خاضوا عشرات المعارك وبكافة الأسلحة حتى حققوا ما يريدون، فإن كانوا من ذوي الموهبة الصادقة استحقوا ثمار جهدهم لسنوات وسنوات، وإلا فإن مقالب التاريخ لا حصر لها..!!
ماتت فايزة أحمد ومات طلال مداح، فجاءت «ذكرى» فنانة من تونس الخضراء، صوتها قوي ومؤثِّر، بل هو منجم استخرج منه الملحنون جواهر لا حصر لها في سنوات قليلة.. ورغم فوضويتها وطيبتها الزائدة، إلا أنها ظلت على الدوام لا شاغل لها غير وصول صوتها، عبر كافة فنون الغناء، العربي، الخليجي، المصري، التونسي، العاطفي، القومي.. وفي كل ذلك كان صوتها يتألق يوماً بعد يوم، وكان كل ملحن يجد في صوتها بغيته التي يبحث عنها.
كنت أتوقع أن يستمتع الناس بصوتها ربع قرن على الأقل، وهي مدة كافية ليتربع أي فنان على قلوب عشاق فنه، لكن نهايتها مثلما توقَّع العديد من الملتصقين بها، كانت بسبب طيبتها وبحثها الدؤوب عن دفء إنساني يساعدها على الانطلاق والتألق فكان نصيبها كميناً عامراً بالرشاشات والمسدسات والتهور.. لتموت بعد أيام من نزول آخر ألبوم لها.
قد يضع الرصاص حداً لحياة إنسان، لكنه بالتأكيد لن يكون قادراً على إنهاء عبق هذا الإنسان! وقد كان عبق «ذكرى» فواحاً وندياً وأصيلاً!!
|