يعود تاريخ الانطلاقة الدولية لمفاهيم الرعاية الصحية الأولية Primary Healthcare الى ما قبل نحو ربع قرن، حين اقرت منظمة الصحة العالمية في اجتماع تاريخي عقد في عام 1978م بمدينة «الماآتا» بالاتحاد السوفيتي السابق، تبني مفاهيم الرعاية الصحية الاولية، واتفق فيه ممثلو «166» دولة عضو في المنظمة على أن يكون هدف «الصحة للجميع بحلول عام 2000م» هو الهدف الاساسي الذي يتوجب على دول العالم ان تسعى لتحقيقه من خلال تطبيق برامج الرعاية الصحية الأولية.
وحددت المنظمة في ذلك الاجتماع ثمانية عناصر اساسية للرعاية الصحية الاولية تشمل:« التوعية الصحية، الاصحاح البيئي، رعاية الامومة والطفولة، التحصين، التغذية، التقصي الوبائي، العلاج، الدواء»، وذلك بمعنى أن مفهوم الرعاية الصحية الاولية يشمل توفير خدمات صحية وقائية وعلاجية واسعة.
ولذلك قال الدكتور هافلدان ماهلر المدير العام الاسبق لمنظمة الصحة العالمية:« ان 80% من الاحتياجات الصحية يمكن توفيرها من خلال مراكز الرعاية الصحية الاولية».
ولقد تبنت المملكة العربية السعودية مفهوم الرعاية الصحية الاولية منذ وقت مبكر، وانتشرت مراكز الرعاية الصحية الاولية في مختلف انحاء بلادنا الغالية حتى بلغ عددها الآن «1800»« مركز صحي.
ولكن رغم الجهود المشكورة التي بذلت في هذا المجال على مدى السنوات الماضية، الا ان الشعور العام يعكس تطلعات لم تبلغها بعض مراكزنا الصحية لاسيما في المدن الكبيرة.
ويتجسد هذا الشعور عندما تعقد الرؤية المقارنة بين العناصر الثمانية الاساسية لفلسفة الرعاية الصحية الاولية - التي اشرنا اليها اعلاه - وبين واقع الدور الذي تقوم به مراكزنا الصحية، حيث قد لا نلمس تكاملاً في اداء هذه العناصر، الامر الذي يستدعي طرح الافكار والمقترحات البناءة التي تستهدف التطوير، وانني في الوقت الذي ادرك فيه المسؤوليات الضخمة والاعباء المتعددة والمهام المتشعبة لوزارة الصحة، الا انني ادرك حرص المسؤولين في الوزارة وفي مقدمتهم معالي الدكتور حمد المانع على الآراء والطروحات الموضوعية الهادفة الى تطوير الاداء بما يواكب تطلعات ولاة الامر ويلبي احتياجات المواطنين.
ومن هذا المنطلق فانني أطرح المقترحات التالية الهادفة الى تطوير أداء مراكزنا الصحية:
* ان تبني مفاهيم الرعاية الصحية الاولية لا يعني الالتزام الحرفي باستراتيجيات «الماآتا» وانما تكييفها وفقاً لاحتياجاتنا الصحية وظروفنا الاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما أكدته المنظمة نفسها عندما اتاحت للدول مرونة التطبيق وفقاً لظروفها مدركة اختلاف البيئة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والصحية بين المجتمعات، فيما يصلح لدول أوروبا الغربية مثلاً قد لا يصلح في مجتمعنا، وفي الوقت الذي يمكن فيه للمركز الصحي لدينا ان يقدم خدمات العناصر الثمانية الاساسية للرعاية الصحية الاولية، تظل امكانية تلبية احتياجاتنا، الطبية، التي تستلزم توفير اطباء اخصائيين في المراكز الصحية وخاصة في مجالات: الباطنة، النساء والولادة الاطفال، الامراض الجلدية، ويمكن ان يتم اجراء الجراحات البسيطة بالمركز الصحي. ذلك ان توفير اطباء اخصائيين في المراكز الصحية من شأنه ان يحقق التالي:
- توفير خدمة طبية متخصصة يحتاجها المجتمع.
- خلق المزيد من الثقة في خدمات هذه المراكز ومن ثم التشجيع على ارتيادها.
- تخفيف الأعباء عن المستشفيات التي تشهد ضغطاً متزايداً.
- وإذا أردنا تطوير مراكز الرعاية الصحية الاولية فانه يجب الاهتمام بالدور الهام للمستشفيات في آليات تطبيق برامج الرعاية الصحية الأولية، ذلك أن تطبيق برنامج الرعية الصحية الأولية ينبغي أن يتم في إطار نظام شامل للرعاية الصحية Comprehensive Health Care System، بحيث يظهر المستشفى في الاطار العام لبرنامج الرعاية الصحية الاولية من خلال اسس محددة وواضحة تستهدف ترسيخ سبل التواصل المستمر والعلاقة الوثيقة بين المستشفى ومراكز الرعاية الصحية الاولية. وهذا ما اكده الد كتور هافلدان ماهلر مدير عام منظمة الصحة العالمية حيث قال:« ان النظام الصحي القائم على الرعاية الصحية الاولية لا يمكن ان يحقق اهدافه ويتطور بدون شبكة من المستشفيات تدعم برنامج الرعاية الصحية الاولية».
* إن خدمات الرعاية الصحية الاولية لابد ان تقدم للسكان من خلال منشآت مخصصة أساساً لهذا الهدف، أما المباني السكنية فان من الثابت انها تعيق تقديم الرعاية الصحية العلاجية والوقائية بالصورة المأمولة. ولهذا صدرت الموافقة السامية على مشروع خادم الحرمين الشريفين لبناء «2000» مركز صحي ولكن بقي التنفيذ.
ولقد سعدنا بتأكيد معالي وزير الصحة الدكتور حمد المانع على عزم الوزارة بناء «100» مركز صحي جديد لاحلال المباني المستأجرة بمبان نموذجية تخدم برامج الرعاية الصحية الاولية.
والحقيقة أن إنجازات الوزير الشاب المتلاحقة والتي تحققت خلال فترة زمنية قصيرة ومنها افتتاح وتشييد «70» مستشفى جديد في عام واحد لأول مرة في تاريخ الوزارة، وحل ازمة مدينة الملك فهد الطبية التي استعصت على مدى سنوات طويلة والتغيير التنظيمي في العمل الصحي الناتج عن تبني «اللامركزية»، وغير ذلك من الانجازات تمنحنا الامل في تحقيق المزيد من التطورات المستقبلية في الخدمات الصحية باذن الله تعالى، ومن بينها خدمات الرعاية الصحية الاولية بما يحقق هدف توفير خدمة صحية نوعية للمواطنين على امتداد ثرى بلادنا الغالية.
وكما تمكن معالي الوزير من تحويل حلم تشغيل مدينةالملك فهد الطبية التي ظلت «مهجورة» على مدى سنوات طويلة الى واقع ملموس، فاننا ندعو الله سبحانه وتعالى ان يوفق معاليه في تحويل المشروع الذي طال انتظاره «مشروع خادم الحرمين الشريفين لبناء 2000 مركز صحي» الى واقع ملموس من خلال البدء في انطلاقة التنفيذ لهذا المشروع الضخم على مراحل في مختلف انحاء المملكة، ذلك ان تنفيذ هذا المشروع من شأنه ان يسهم - بمشيئة الله تعالى - بفعالية كبيرة في تطوير اداء مراكز الرعاية الصحية الاولية وتطوير الخدمات الصحية في المملكة عموماً.
|