إن كلَّ مولود يخرج للحياة في المجتمع يعدُّ مكسباً وثروة لا تقدَّر بثمن لهذا المجتمع.
فالمجتمعات تنمو وتتطور بتضافر جهود أبنائها الذين يتعاقبون الأدوار الإيجابية لأداء واجباتهم في العمل والبناء وفق منظومة تراكمية يقتضيها عمران الأرض وإحيائها. ولتحقيق هذا الهدف العظيم لا بد أن تتهيّأ البيئة الملائمة لأبناء المجتمع أفراداً وجماعات من أجل تحقيق الاستفادة القصوى من كل القدرات والمواهب المتنوعة في جميع المجالات ولكي تشمل كل الفئات والتخصصات. وأحسب أنه لا يمكن بأي حال أن نصل إلى تحقيق ذلك إلا وفق منهج متكامل ومدروس يبدأ تبني برامجه وإنفاذ خططه منذ وقت مبكِّر في التنشئة والرعاية والتوجيه العلمي والتربوي.
وسأحاول أن أضع بعض الخطوط العريضة لما أرى أنه يمثل مشروع برنامج حضاري يؤكد على تحقيق الاستثمار الأمثل والجاد لجميع الطاقات والقدرات الوطنية المتنوعة المتوفرة لدى كافة أفراد المجتمع بشكل يحقق الاستفادة من هذه القدرات والمواهب بما يحقق التنمية الشاملة المنشودة التي لا يمكن أن تتحقق لأي مجتمع إلا بسواعد وعقول أبنائه. وإليكم ذلك في العناصر التالية:
1- ينبغي أن نتعامل مع جميع الطاقات من أفراد المجتمع على أساس أنها طاقات تملك مواهب فذة يمكن الاستفادة منها في المجال الذي يناسب قدراتها دون إهمال أو تهميش، فزرع الثقة يعد السمة الأولى والعنصر الأساس والمحوري من أجل تحفيز القدرات نحو الإبداع والإنتاج.
2- لا بد من إحداث تغييرات إصلاحية حقيقية لمناهجنا التعليمية بما يواكب المرحلة الحاضرة والمستقبلية، يجب أن نقر أن مناهجنا خاصة العلمية منها لا تزال تراوح مكانها في تخريج عقول خامدة لا تتعدى التلقين وفك حجب الأمية التقليدية دون الوصول إلى الفضاء العقلي الرحب المتأهب نحو نزعة البحث العلمي وامتلاك نواصي وأسرار التقنية الحديثة.
3- ينبغي أن ندرك أنه لا تعارض البتة بين الدعوة إلى إصلاح المناهج - وبخاصة العلمية - وبين التمسك بالثوابت والأسس التربوية الشرعية التي تشكل في اعتقادي المحور الأساسي لتميزنا وكخيار استراتيجي حضاري لا يمكن المساومة عليه، بل يمثل دون أدنى مبالغة الدافع الحقيقي نحو التميز والتوثب للريادة وكسب المعالي استجابة لأمر الله سبحانه لتحقيق الاستخلاف في الأرض وعمارتها إذ الإسلام الحق يأبى الدروشة أو الجهل فهو دين التفكر والعلم المفضي إلى التعبد الحق. فلا تضاد بين العلم والإيمان بل هما متلازمان في ديننا ولا يمكن أن يتحقق لنا العلم الذي نصبو إلى امتلاك ناصيته في جميع الفنون إلى عن طريق التسلح بإيمان عميق ينتج أجيال صالحة تبني ولا تهدم وتصلح ولا تفسد.
4- لا يمكن للإبداع أن ينمو وتنفتح العقول عن مكنوناته إلا في ظل بيئة تشجع عليه وترعى مخرجاته، لذا فإن التركيز على رفع الوعي الاجتماعي وإحياء روح البحث العلمي في الأوساط الاجتماعية يتطلب تنفيذ حملات إعلامية متتابعة تعمق هذا الشعور الإيجابي لدى المجتمع حتى يكون ذلك ميدانا رحبا لجذب الطامحين إلى الإبداع للتنافس وشحن العقول والأذهان. مع ترسيخ حرية الرأي والحوار التي تمثل المحور الأساس لزرعة الثقة والقدرة على التفكير السليم دون خوف أو إقصاء.
5- لا بد أن ندرك أن وجود أي فرد من أفراد المجتمع مهما كان تأهيله وقدراته عالية أم متواضعة دون عمل منتج أو الحصول على فرصة لاكتساب مهارات مفيدة يعد خسارة فادحة وخللا مضاعفا في بنية المجتمع تعيق تقدمه لما يمثله ذلك من إهدار لطاقات مفيدة في وقت يعد المجتمع بأمس الحاجة للاستفادة منها في أي مجال يناسبها.
6- إن تفاوت القدرات والمواهب بين أفراد المجتمع يمثل آية من آيات القدرة الإلهية والحكمة الربانية البالغة في عمارة الأرض من قبل هذا الإنسان المستخلف فيها وحري بنا أن نستوعب هذه الحكمة ونتعامل معها بواقعية علمية تحقق لنا تطبيق مبدأ جعل الشخص المناسب في المكان المناسب بعيدا عن أي اعتبارات أو عوامل تعيق تحقيق هذا المبدأ الحكيم حينما تتدخل معايير شخصية تتسبب في انتكاسات متلاحقة لمسيرة البناء.
وفي هذا خلل يتطلب التصحيح الجاد من أجل سد أي ثغرات قد تقضي على أي بوادر مشجعة لاستقطاب القوى المبدعة في سبيل الوصول إلى الإصلاح المنشود.
7- توفر البيئة العلمية الملائمة لمخرجات التعليم أمراً في غاية الأهمية لتحقيق التوافق والانسجام بين ما طالبنا به من إصلاحات جذرية للتعليم وبين مناخ وسوق العمل سواء الرسمي منه أو الأهلي لذا فإنه يتعين العمل على تهيئة البيئة المناسبة في سوق العمل التي تلبي صقل المهارات والمواهب المكتسبة والفطرية التي تحصلت في المرحلة التعليمية والتدريبية إضافة إلى توفير البيئة العلمية والتقنية القادرة على تطوير القدرات وتحفيز المواهب نحو مزيد من الإبداع عن طريق بناء صروح كبرى لمراكز بحوث علمية متنوعة لكافة فنون العلم وفق خطة طموحة تذلل العزائم ما قد تواجهه من صعوبات وعوائق.
8- ولا يفوتني التأكيد على أهمية أن نكون في سباق مع الزمن لتأصيل المنهج العلمي في أساليب ووسائل تعليمنا حتى نصل إلى المرحلة التي تؤهلنا لامتلاك أسرار العلم والصناعة الحديثة التي لا نزال بعيدين عن الوصول إلى التأهيل الحقيقي لمواجهة هذا التحدي باقتدار دون رهبة أو تردد. فلا خيار آخر لنا إذا أردنا الانعتاق من جوانب الجهل والتأخر في زمن تتسابق أمم الأرض لامتلاك العلم كمصدر للقوة والتمكين.
|