Monday 8th december,2003 11393العدد الأثنين 14 ,شوال 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

فكر المراجعة فكر المراجعة
د. حامد بن مالح الشمري/ مدير عام إدارة الدراسات بمجلس الشورى

لقد أكرم الله الإنسان وخصه عن سائر مخلوقاته بصفات ونعم عديدة، وفي مقدمة هذه النعم والمزايا نعمة العقل الذي يمنحه الإدراك والتفسير العقلي والعملي والمنطقي للكون والحياة، وهذا العقل هو الذي ينير للإنسان طريقه للخير والحق والصواب والسعادة ويجنبه طريق الشقاء والشر والضياع والفتن والدمار والبغي.
ومن خصائص الشريعة الإسلامية الوضوح التام والشمولية في القيم والمفاهيم والسلوك، فالدعوة للإسلام واضحة الأهداف والأساليب ولا تعرف طريقاً للاعوجاج والمراوغة والغش والشدة والخفاء، إلى غير ذلك من مقاصد العقيدة الإسلامية السمحة والأحكام الشرعية، فكلها لا تحتمل التأويل والانحراف.
ولا بد للمسلم أن يحكم عقله إلى كتاب الله وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا إلى ميزان هواه وما قبله عقله واتفق مع تفسيره الخاص للنصوص القرآنية، فيصبح الدين لدى هذا النوع من الناس خاضعاً لما قبلته عقولهم والمرفوض من الدين هو ما لم يتفق مع عقولهم وأهدافهم.
إن العصمة لا تكون إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام أما غيرهم من البشر فالكل معرض للخطأ والصواب، ولا ضير بأن يقال للمخطئ أخطأت، أو أن يعترف بخطئه، وعمر الفاروق رضي الله عنه قال: «لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نقبلها» وهذه دلالة قوية على أهمية النقد والنصيحة والحوار والتحاور حتى مع الأعداء والرجوع عن الخطأ، فليس عيباً أو انتقاصاً من قدر الإنسان أن يعود ويتراجع عن الخطأ بعد أن يتبين خطأ منهجه، فهذا من الشجاعة والإقدام وهو من خلق المسلم.
إن ما حدث من مراجعة واعتراف من قبل الشيخين الفاضلين علي الخضير وناصر الفهد واعترافهما بخطأ المنهج الذي سلكه كل منهما وتقديم خلاصة التجربة لشباب هذا الوطن و تأكيدهما أنهما لم يتصورا أن تؤول الأمور إلى هذا الحد، يجعلنا ندرك ما للمراجعة والمحاسبة والتبصر بحكمة من فوائد لا تحصى ولا تعد، ولا يختلف اثنان على أن الجميع يكبر ويقدر شجاعة الشيخين في رجوعهما للحق وهذا من النعم العظيمة التي ميز بها الإسلام المسلمين، فالكمال ليس من صفات البشر. وكلنا مقصرون ولدينا أخطاء والكثير منا لا يملك الشجاعة للعدول عن الخطأ وبيانه للناس، لأن هذا يحتاج إلى عمق شرعي وصدق الكلمة وشجاعة الضمير وحب الخير ونشره بين الناس.
إن العاقل المتبصر يعلم ما يحمله الدين الإسلامي من قيم ومبادئ فاضلة وسامية تكفل للناس حقوقهم وواجباتهم على أساس من العدل والمساواة والإحسان والرحمة والرفق والموعظة الحسنة ونبذ للخلافات ودحر للفرقة والتناحر أو إشاعة الفتن بين الناس وإلحاق الأذى بالآخرين وهو ما يحاربه الإسلام جملة وتفصيلاً.
إن فكر المراجعة والعودة للحق وجادة الصواب هو ما يجب غرسه وتعليمه من قبل الكبير والصغير، بين الأب وأولاده، الرئيس والمرؤوسين، المعلم والطلاب والمرجع لذلك هو كتاب الله وسنة رسوله، والناس بحاجة لمن يذكرهم بذلك ويحذرهم من مغبة التخلي عن كتاب الله وهدي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام واللذين بهما تبيان لطريق الصواب بالرفق واللين، ومعلوم بأن المسلم قوي بدينه وضعيف ببعده وجهله بهذا الدين العظيم، وما أكثر الجهال والمتجاهلين والمتآمرين لقيم وفضائل ديننا الحنيف في هذا الزمن والذي ابتليت فيه الأمة بأنواع الكوارث والأزمات بسبب هذا الجهل والبعد عن تعاليم ديننا وشريعتنا الغراء.
لا يخلو أي مجتمع في هذا العالم إلا وبه بعض المفاسد والمنكرات أو قصور في بعض الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك ومع وجودها فلا يمكن أن تعالج بالعنف والقوة، والإصلاح المنشود هو ما يرضي الله سبحانه وتعالى ويتفق مع هدي السنة المحمدية، وما يميز المجتمع المسلم على وجه الخصوص التسامح، والتكامل، والتعاون، والدعوة للخير بالحكمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى ذلك وفق ضوابط وتعاليم شريعتنا الإسلامية التي تحث على الرفق واللين والبعد عن الغلو في الفكر، والقسوة في التعامل، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، ومعلوم بأن الضرر لا يزال بضرر أكبر منه، أي أن النظر إلى النتائج وعواقب الأمور من القواعد الشرعية.
إن ابتعاد الناس عن تعاليم ديننا وهدي نبينا عليه الصلاة والسلام في التعامل والمعالجة لبعض الإشكالات، واللجوء إلى وسائل العنف والقوة، والجرأة على الفتيا، وتصنيف البشر وفق ما تقبله عقولهم أو ترفضه، هو بداية فتنة كبرى عانت منها بعض المجتمعات العربية.
إن الكثير من الأمور تغيرت في مجتمعنا بدءا من التفكك الأسري في المنزل والذي أصبح لدى البعض مقراً للأكل والشرب والنوم فقط، لا دور فيه للأب والأم لتوجيه ومتابعة تربية الأبناء على القيم والعادات الإسلامية والاجتماعية الفاضلة، منازل أسرية يسودها الضياع بسبب فقدها للجانب التربوي وحل بدلاً منه ثقافة وقيم العمالة المنزلية الوافدة والقنوات الفضائية من مختلف المشارب والمذاهب والثقافات والحريات التي لا يقرها العقل البشري، موظف تنقصه الأمانة والإخلاص والصدق والولاء في المعاملة والعمل حتى أصبح الكثير من هؤلاء لا يبالي بواجبات ومسؤوليات الوظيفة مما جعل الكثير من مصالح الناس معطلة وغير ذلك من القصور الواضح في الكثير من الجوانب وبسبب أنفسنا وتخلينا عن مسؤولياتنا الأسرية والاجتماعية والعملية.
نحن بحاجة إلى إعادة ترسيخ فكر المراجعة والمحاسبة كل حسب تخصصه ودوره في هذا المجتمع، ندرك بأنه لا يزال الاهتمام بشريحة المراهقين والمنقطعين عن الدراسة في التعليم العام من صغار السن دون المستوى المطلوب، وهم بأمس الحاجة لمن يقوم على حمايتهم وتوجيههم من الاستغلال الخاطئ من بعض الجماعات والأشرار لأي هدف كان وغير ذلك من الإشكالات التي تحدث في مجتمعنا، ولا شك أن مراجعة النفس والاعتراف بالخطأ والعودة للصواب هي المفتاح الرئيسي لمعالجة هذه الإشكاليات بكافة أنواعها، ونحن بذلك نعمق من ثقافة النقد البناء والتسامح والحوار والعدل والمساواة ومحاربة الفساد وغير ذلك وهو ما يأمرنا به ديننا الإسلامي ومن شأن ذلك درء الكثير من الفتن والمشاكل وخصوصا في عصر العولمة والانفتاح والتقارب الكبير بين شعوب العالم وكذلك التطورات الدولية.
إننا في أمس الحاجة إلى مراجعة أنفسنا ما بين وقت وآخر، وإلى معرفة الإيجابيات والسلبيات، والخطأ والصواب في مناهجنا وبرامجنا التطويرية والتربوية والتعليمية، ومجالات النقص والتقصير في الخدمات والواجبات المطلوبة منا لأسرنا ولمجتمعاتنا، وبسواعد أبناء هذا الوطن - إن شاء الله - نعمل على معالجة السلبيات.
إن المراجعة المطلوبة تشمل مراجعة الفكر والسلوك.. ونعني بمراجعة الفكر تلك المراجعة الدقيقة لطروحاتنا الفكرية والأساليب ومناهج وبرامج الدعوة التي ننتهجها في الداخل والخارج، وهل هي مطابقة أم مخالفة لمنهج القرآن والسنة، بالإضافة إلى مراجعة مواقفنا الفكرية من الآخرين وهل هي مواقف تفاهم أم تصادم،؟ لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالحوار الهادئ ونهانا عن التصادم في قوله سبحانه: {ادًعٍ إلّى" سّبٌيلٌ رّبٌَكّ بٌالًحٌكًمّةٌ وّالًمّوًعٌظّةٌ الحّسّنّةٌ وّجّادٌلًهٍم بٌالَّتٌي هٌيّ أّحًسّنٍ.. }، {فّإذّا الّذٌي بّيًنّكّ وّبّيًنّهٍ عّدّاوّةِ كّأّنَّهٍ وّلٌيَِ حّمٌيمِ (34) وّمّا يٍلّقَّاهّا إلاَّ الّذٌينّ صّبّرٍوا وّمّا يٍلّقَّاهّا إلاَّ ذٍو حّظَُ عّظٌيمُ }.
وفي هذا السياق لا بد من مراجعة مضامين الخطاب الديني والخطاب الإعلامي والخطاب التربوي وتخليصها من التشدد امتثالاً للآية الكريمة وكل التوجيهات القرآنية والنبوية التي تحث على الرفق واللين والوسطية، وتخليصها كذلك من المبالغات ومن أساليب الحشو والتلقين.
أما مراجعة السلوك فهي مراجعة أساليب التعامل مع الآخرين وأساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهل هي أساليب مطابقة أم مخالفة لمنهج السلف الصالح المستمد شرعيته من كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
والأهم من ذلك أن يترتب على تلك المراجعة التراجع عن الخطأ، ومعالجة السلبيات، وتلافي أوجه القصور من قبل الأب مع أفراد أسرته، والمعلم مع طلابه، والرئيس مع مرؤوسيه والإمام والخطيب مع المأمومين، والحاكم مع أفراد شعبه.
يجب أن تكون المراجعة شاملة لكل طبقات السلم الاجتماعي ولكل مجالات وميادين الفكر والسلوك، كما يجب أن تكون دائمة لكيلا يتكرر ما حدث من أحداث مأساوية في بلادنا. إن التمادي في مناهج فكرية تنطوي على الكثير من التشدد والغلو له من السلبيات العديدة، وهذا ما يجعلنا على يقين بأهمية المراجعة في كل وقت وحين، وبأهمية التراجع عن الأخطاء، لكي تصبح مسيرتنا واضحة وجلية وسليمة وخالية من الأخطاء الكبيرة التي تزعزع أمننا، وتربك خطانا، وتؤثر على سمعة ديننا وأوطاننا وشعوبنا تأثيراً سلبياً، وأيضاً نقطع الطريق من أمام الحاقدين والحاسدين لما تتمتع به بلادنا من نعمة الأمن والأمان والسعة في الرزق وهي من النعم التي يفتقدها الكثير من شعوب العالم.
إن فكرة المراجعة والتراجع عن الأخطاء هي الأسلوب الأمثل لتصحيح المسيرة، وإعادة الثقة في شعوبنا لدى المجتمعات الأخرى، والعودة إلى طريق الحق والصواب من قبل الفئات المخطئة والمغرر بهم. ولا بد من تكريس الجهود والامكانات لتوفير حياة آمنة كريمة لمواطن هذا الوطن المعطاء، فلا حياة وتنمية وتطوير وبناء بدون توفر الأمن والاستقرار في ربوع بلادنا.

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved