Monday 8th december,2003 11393العدد الأثنين 14 ,شوال 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

العقدة الغربية العقدة الغربية
د. عبدالرحمن الحبيب

حين صدر كتاب «العرب، وجهة نظر يابانية» لمؤلفه نوبوأكي نوتوهارا توقعت أن سهام لوم وتقريع ستنال ذلك المستشرق الياباني لأنه تعرض لنفاق وكذب وازدواجية المثقفين العرب، ولكن الذي حدث عكس ذلك، فجميع ما قرأت حول ذلك الكتاب كان يتراوح بين عرض تحليلي محايد وتأييد ضمني أو مباشر. بعد ذلك تصورت لو أن مستشرقاً غربياً طرح عُشر ما جاء به الكاتب الياباني، ماذا يمكن أن تكون ردود الفعل؟ ولماذا التصور، فكل نقد يوجه لنا من كتَّاب غربيين يقابل من الغالبية برفض قطعي واتهام بالتآمر! الغريب أنني عندما أشرت لهذا الكتاب وتطرقت لموضوع الكذب عند العرب، أتتني ردود عبر الإنترنت تحاجني بمقدار الكذب عند الغرب! وكان ردي: أنه إذا كان موضوعي عن العرب، ولابد أن ألتزم به، والكاتب ياباني، وأنا عربي، لا أفهم ما علاقة الغرب في ذلك؟؟ هل الغرب عقدتنا!؟
وإذا لجأت لأسلوب القطبية الثنائي في الفرز وهو اسلوب مثالي هدفي منه إجرائي فقط فيمكنني تصور قطبين في التعامل مع الثقافة الغربية (مع ما بين هذين القطبين من أطياف): القطب الأول يرفض ما يجلبه الفكر الغربي من سياسة واقتصاد واجتماع وتربية ويستثني من ذلك بعض الأساليب التنظيمية مردفاً إليها التكنولوجيا والعلوم الطبيعية، بدعوى أن ما لدينا من تراث كفيل بتأسيس ثقافة معرفية متكاملة دون الاستعانة بالغرب المتهتك روحياً، أما القطب الثاني فيتبنى كثيراً من الأفكار الغربية من لبرالية وديموقراطية وحقوق إنسان وعدالة اجتماعية، ومجتمع مدني.. الخ، باعتبارها شعارات صادرة أصلا من ثقافتنا الإسلامية العربية، وأن الغرب طوَّر علومنا وفلسفاتنا القديمة، فلا جديد لديه سوى بعثها وتأطيرها نظريا.. هنا كثيراً ما تتردد عبارة: «بضاعتنا رُدَّت إلينا!». وفي تقديري أنه لا يوجد فرق جوهري بين القطبين من ناحية تأزم العلاقة مع الآخر الغربي، كلاهما في أغلب حالاتهما يصدران من حالة فوبيا تجاه الثقافة الغربية وتماه مع الذات. الأول من منطلق هجوم ضد ثقافة الآخر والثاني من منطلق دفاعي لثقافة الأنا. هذان المنطلقان (الهجومي والدفاعي) يربكان تفاعلنا الطبيعي مع الآخر الغربي وطبيعة تعاطينا مع هويتنا ذاتها.
لنضرب مثلاً الحداثة في الشعر، القطب الأول يعاديها باعتبارها انسلاخاً عن الأصالة، وتحطيم لحرمة عمود الشعر، وتفسخ في المعنى، فليس بالإمكان أفضل مما كان، وما الحداثة إلا انحطاط جمالي.. ويبني كثيراً من مواقفه الفنية على أساس هذه الخصومة؛ فيما القطب الثاني يبجل الحداثة ويدافع عنها معتبراً أنها موجودة في تراثنا العربي كأعمال أبي تمام وابن العربي وأبي العلاء المعري، ويُفرِغ جلَّ اطروحاته النقدية في هذا الدفاع.
هذا الالتباس في علاقتنا مع الآخر الغربي لا نجده بهذا الوضوح في علاقتنا مع الآخر الشرقي كاليابان والصين، فعندما تسمع خبراً عن شركة يابانية عقدت صفقة بمليارات الدولارات مع دولة عربية لا يعتريك أي رجفة أو فكرة تآمرية، كما يحدث عندما تسمع ذات الخبر لشركة غربية. فهل أولئك ملائكة وهؤلاء شياطين؟ بل وصل الأمر لحد رفض المطاعم الغربية وبالذات تلك التي تحمل ماركات عالمية معروفة، فمجرد طعام الغربيين أصبح يثير وجلاً وريبة، ويستدعي حديثاً عن الغزو الفكري والثقافي! وأظن أن مصطلحاً مثل «الغزو الفكري» أو «الدفاع عن الهوية» هي أقرب للقاموس العسكري منها لمفردات التثاقف. سيقال لك أن التثاقف يتم بين أنداد أكفاء بعيداً عن الهيمنة. ولكن، هل التكافؤ ملزم بالضرورة؟ الا يمكن أن يكون بين فريقين متفاوتين، فالفريق الأقل تطوراً ينهل من الأفضل، أليس هذا ما يفعله أي شعب في بدايات طريقه للتقدم؟ وإذا كنَّا نحمد لثقافتنا ولديننا الإسلامي السمح الذي انتشر عبر شرق آسيا مثلاً من خلال التجارة والثقافة، كيف نعد مثل ذلك غزواً إذا كان من الغرب؟ ومنذ متى كانت الثقافة غزوا؟ وهل ثقافة عريقة عميقة الجذور مثل ثقافتنا يُخشى عليها من الانقراض فيما ثقافات أقل عراقة صمدت وطورت نفسها دون رهبة من هذا الوهم؟
وفي هذه العلاقة الملتبسة مع الغرب كثيراً ما تُطرح اليابان كأنموذج يحتذى به، باعتبار أنها تطورت تكنولوجياً مع حفاظها على هويتها الخاصة، وإذا افترضنا أن هذا الطرح صحيح، فما المقصود بالهوية الخاصة التي كثيراً ما نبالغ في تكرارها وتضخيمها؟ أليس المنظومات السياسية والاقتصادية والتربوية في اليابان هي ذات منطلقات فلسفية غربية؟ وذلك ينطبق على الدول ذات التوجه المتسارع في التنمية كماليزيا وكوريا. إذن الهوية الخاصة ليس شيئاً جامداً غير قابل للتطوير والتعديل، فالحالة اليابانية لم تحافظ على هوية خالصة نقية، فهذا محال لمن أراد الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى، بل إنها حافظت على هوية متجددة خاصة بها، وفي الوقت نفسه تولدت لديها هوية مشتركة مع الحضارات الأخرى خارج الجزر اليابانية خاصة مع الحضارة الغربية.. فالهوية اليابانية مزيج من ثقافتها الخاصة والثقافات الأخرى، دون أن يثير هذا المزيج رعب اليابانيين من فقدهم لهويتهم أو من غزو فكري غربي.
وإذا كنا نطالب الغرب بحسن فهمنا، فإنه من المأمول أن نفعل الشيء ذاته تجاهه، قبل الحكم الجزافي عليه أو التعميم التبسطي على مواقفه تجاهنا، ولا نكتفي بالظواهر السطحية لأعماله، بل نحاول معرفة الأسس الحضارية لهذه الأعمال. فإذا كان الخصم هو أمريكا، ينبغي أن نفهم الأسس التي تبني فيها مواقفها وندرسها. أو كما يوضح إدوارد سعيد أحد أقسى النقاد على أمريكا، بأن أمريكا ليست مؤامرة يهودية، بل: «مجتمع معقد يتصارع فيه الكثير من التيارات والمصالح والضغوط». ويقول: «نعم أمريكا هي بلد مكدونالدز وهوليوود والجينز وكوكا كولا وسي إن إن، وتصدر كل هذه المنتجات إلى كل مكان بفضل العولمة والشركات المتعددة الجنسيات.. لكن علينا أن نعرف مصدر هذه المنتجات وفهم العمليات الثقافية والاجتماعية التي تكمن خلفها، خصوصاً مع المحاذير الواضحة المترتبة على التفكير التبسيطي والاختزالي أو الجامد بأمريكا».
لا شك أن علاقتنا الملتبسة مع الغرب، وكذلك علاقة الغرب الملتبسة معنا، لها ماض طويل من جوار غير ودِّي ومن حروب متقطعة امتدت لأكثر من ألف عام، إلا أننا (عرباً وغربا) ينبغي ألا نكون رهينة لتفسيرات هذا التاريخ العدائي، وأن ننفض عنا ركام الخيالات التآمرية الممزوجة بوقائع حقيقية اندثرت أو ما زال بعضها ماثلا.. فبدون التعايش السلمي بين الشعوب يصبح الخيار الآخر محفوفاً بالدمار، خاصة للطرف الأضعف الذي من مصلحته، أكثر من غيره، أن ينمي ثقافة المصالحة لا ثقافة المواجهة.

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved