Monday 8th december,2003 11393العدد الأثنين 14 ,شوال 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

ومن مؤتمر إلى آخر ومن مؤتمر إلى آخر
عبدالله الصالح العثيمين

أوردت في المقالة السابقة مضمون ما قلته في مؤتمر مجمع اللغة العربية في دمشق حول وضع اللغة العربية الفصحى في وطننا المملكة العربية السعودية مع انتشار قول شعر بغيرها ومزاحمته لما هو بها؛ بل وارتفاع مكانته اجتماعياً، وأشرب إلى شيء يمكن أن يسهم في التغلب على هذه المشكلة.
وفي هذه المقالة، التي هي الأخيرة في سلسلة المقالات عن المؤتمرين سيكون الحديث منصباً على المسألة الثانية التي تناولتها في المجمع بدمشق؛ وهي: جعل اللغة الأجنبية، وبخاصة الإنجليزية، وسيلة للحصول على وظيفته، أو استبدالها بالعربية في مخاطبة العمال غير العرب. والواقع أن الوضع بالنسبة لهذه المسألة مؤسف جداً. فالاعتزاز باللغة العربية في مهد فصحاها ومهبط الوحي المنزل بها لا يصل إلى الحد الذي يتوقعه ويأمله كل مخلص لهذه اللغة التي هي الركيزة المهمة من ركائز هوية الأمة العربية التي يكون شعب المملكة جزءاً منها، ويتضح ذلك في مظاهر عدة، منها الإعجاب العظيم والتشجيع الواضح لدى الكثيرين، بمن فيهم رجال تعليم ومسؤولون كبار في الدولة، لأي تلميذ يلقي في احتفال مدرسي عبارات بالإنجليزية، في حين لا يجد من هو رائع في إلقائه كلاماً باللغة العربية الفصحى، مثل ذلك الإعجاب، وهذا التشجيع. وكان من شدة انبهار البعض بمن يتكلم الإنجليزية - مهما كانت معرفته بها قليلة - انبهاراً عظيماً عبر عنه أوضح تعبير ما اعتادوا قولهم عنه: «فلان يتكلم بسبعة ألسن».
ومن تلك المظاهر الانجراف في عدم استعمال اللغة العربية استعمالاً صحيحاً في التحدث مع العمال غير العرب، وبخاصة الآسيويين، فبدلاً من التحدث معهم بلغة عربية سليمة نوعاً ما يتحدث معهم بلغة ظاهرها العربية، لكنها تتناقض تناقضاً تاما مع قواعدها وتراكيبها، فتجد المواطن العربي يقول للعامل الآسيوي غير العربي - مثلاً -: «أنت يروح.. أنا يروح».
على أن من أوضح مظاهر عدم وصول الاعتزاز باللغة العربية في مهدها إلى الحد الذي يتوقعه ويأمله المخلصون لها شيوع استعمال اللغة الإنجليزية في ميادين مختلفة في طليعتها ميدان العمل الذي يحتاج إليه المواطنون؛ ولاسيما الشباب، فكثير من الشركات والمؤسسات غير الحكومية لا تهتم بمن يجيدون العربية اهتمامها بمن يجيدون الإنجليزية، بل إن منها ما تعلن بأن من شروط الحصول على عمل فيها إجادة هذه اللغة مع أن أكثر وجوه نشاطها لا يحتاج إلى هذه الإجادة، وكان هذا أحد الأسباب التي أدت إلى أن يصبح العمال غير العرب هم الغالبية في بعض تلك الشركات والمؤسسات، ويصبح من المتوقع أن يستعمل المواطن اللغة الإنجليزية في تعامله مع هؤلاء العمال، اضراراً أو عدم مبالاة، بل إن أكثر العقود بين الشركات والمؤسسات المشار إليها والمواطنين صارت تكتب بها، ومع وجود قرارات حكومية مشكورة تهدف إلى الحد من استعمال غير العربية في التعامل التجاري فإن تنفيذ هذه القرارات ما زال متعثراً كل التعثر.
صحيح أنه قد يحتاج - بسبب تشابك المصالح التجارية عالمياً - إلى اللغة الإنجليزية، التي أصبحت أكثر اللغات رواجاً في التعامل التجاري بين الدول، في وجوه من نشاط الشركات والمؤسسات؛ مثل التعامل مع شركات أجنبية، وتمثيل بعض مسؤوليها في الملتقيات الدولية، غير أن هذا الاحتياج المحدود في بعض الوجوه يمكن أن نحل مشكلته - إذا وجدت العزيمة في البحث عن حلول - بعد الالتحاق بالعمل.
وأضرب مثلاً لذلك أن معيدين سبق أن درسوا في التعليم العام لوزارة المعارف، وتعلموا الإنجليزية من بداية المرحلة المتوسطة، ثم واصلوا تعلمها في الجامعة، ولما ابتعثوا للدراسة العليا في بريطانيا احتاجوا إلى سنة لتعلم تلك اللغات، مثلهم مثل المعيدين الذين ابتعثوا إلى البلاد، ولم يسبق أن درسوا الإنجليزية، وكانت نتيجة تحصيل هؤلاء وأولئك، وجه العموم، من هذه اللغة بعد ذلك العام متقاربة.
أما أن تجعل إجادة اللغة الإنجليزية شرطاً مسبقاً للحصول على الوظيفة فموقف يجمع بين وضوح النظرة الدونية إلى اللغة الوطنية، التي هي لغة القرآن الكريم المصدر الأول لدين الإسلام.. دين أكثرية الأمة العربية، وبين عدم مراعاة شباب الوطن.. جيل المستقبل الذين تزداد حاجتهم إلى العمل كسباً للعيش الكريم، وتزداد حاجة الوطن إلى عطائهم في مختلف مجالات الحياة للرقي إلى المكانة المرجوة في العالم.
في جميع بلدان العالم يحتاج العامل الوافد إليها للعمل فيها إلى معرفة لغتها، ويضطر إلى استعمالها، بل إنه يندر أن يوجد بين مواطنيها من يحدث زائرها بغير لغته الوطنية إلا إذا رأى استحالة معرفة ذلك الزائر بها. أما أن يكون المواطن، كما هو واقع في المملكة، هو المحتاج إلى معرفة اللغة الأجنبية في بلدة، وهو المضطر إلى استعمالها في تعامله مع الأجانب العاملين فيها، فأمر غريب كل الغرابة.. مؤسف أشد الأسف.
أمن الممكن علاج ذلك الوضع الغريب المؤسف؟
نعم.. من الممكن ذلك متى سلكت الطرق الصحيحة للوصول إلى الهدف المنشود، ليس من اليسير تغيير النظرة الاجتماعية بين عشية وضحاها، فالإعجاب باللغة الإنجليزية مأساة اجتماعية موجودة عند عامة الشعب، كما هي موجودة عند عدد من قادته، بل إن رجال التعليم الكبار من هو معجب بها إعجاباً يستغرب من مثله ويستنكر. وإذا كان المستعمر لبعض البلدان العربية سابقاً هو الذي كان يسعى إلى تعليم لغته في مدارس البلدان التي استعمرها نشرا لثقافته فإن من المواطنين - والمسؤولين عن مسيرة التعليم بالذات - من يسعون إلى تعليم اللغة الاجنبية في المدارس الوطنية من المراحل الأولى في سلم التعليم، ولذلك فإن الأمر يحتاج إلى جهود جبارة واعية من جميع المخلصين لتصحيح المسيرة والوصول إلى موقف يجعل للغة العربية مكانتها اللائقة بها إعزازاً وإجلالاً يتمثلان في تفضيل استخدامها في كل مجالات الحياة، ويظهر الإعجاب والتشجيع لمن يجيدونها من الشباب بالذات، وموقف كهذا الموقف لا يعني أن تعلم الإنجليزية لمن يحتاج عملهم إلى معرفتها أمر غير مهم. لكن يجب أن توضع الأمور في مواضعها الصحيحة المناسبة.
أما بالنسبة لمشكلة اشتراط معرفة اللغة الإنجليزية للحصول على وظيفة في الشركات والمؤسسات غير الحكومية فيتطلب حلُّها - إضافة إلى الجهود المتواصلة الجادة لإقناع المسؤولين فيها بعدم اشتراط ذلك - موقفاً حكومياً حازماً يمنع وجوده، فالقرارات النبيلة التي أصدرتها الحكومة مشكورة تعزيز مكانة اللغة العربية في المجالات المختلفة، ومن بينها التعاملات التجارية، غير كافية ما لم تتخذ إجراءات حازمة لتنفيذها.
حقق الله للغة العربية، التي أنزل بها وحيه الكريم على سيد خلقه العربي الأمين، كل ما يتمناه المخلصون لعروبتهم ودينهم من إعزاز وإجلال، وحمى كيانها من كل ما يحيط بها من مخاطر.

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved