* بغداد-د. حميد عبد الله:
كل ما يروى عن بغداد اليوم بات قابلا للتصديق بل ممكن الوقوع مهما كانت درجة غرابته، ذلك لان سقف الفوضى يتسع لكل شيء، ومادامت الفوضى هي القانون، والقانون كاليتيم الذي فقد أبويه على حين غرة، فإن المألوف صار غريبا والغريب اصبح هو السائد والمألوف بل وهو القاعدة وعداه الاستثناء.
فالعراقي اليوم يتلو الشهادتين قبل أن يغادر منزله لان عودته لم تعد مضمونة، فمن ينجو من رصاص السلابة واللصوص يقع ضحية الرصاص الأمريكي الذي يطيش يمينا ويسارا عله يصيب واحدا من عناصر المقاومة، فكل عراقي في نظر جنود الاحتلال (مقاوم) حتى يثبت العكس، ومن يحالفه الحظ ويفلت من كل ذلك فربما يقضي بواحدة من الانفجارات والمواجهات بين رجال المقاومة وجنود قوات التحالف، أما من يعود سالما الى عائلته فانه قد بدد نصف ساعات النهار في اختناقات الشوارع التي لم تجد من ينظمها سوى مجاميع من الشباب الذين ضاقت بهم سبل العيش فجعلوا من أنفسهم شرطة مرور وكل له دافعه من وراء هذه المهمة الشاقة.
فلم يجد الشاب الذي رأيته قبل أيام قرب أحد التقاطعات حلاً أفضل من الجلوس على الرصيف في انتظار أن يحل سائقو السيارات أزمتهم بأنفسهم بعد أن يئس من إجبارهم على الامتثال لاشاراته المرورية حتى لمحت الدموع قد تلألأت في عينيه من شدة التعب والإرهاق، هذا الشاب وكثيرون غيره اختاروا الشارع مكاناً لعملهم الجديد كأصدقاء للمرور في الوقت الذي لم يفلح فيه رجل المرور في حل الاختناقات المرورية بمفرده خاصة بعد أن أغلقت عدة منافذ وتعطلت الإشارات الضوئية وفقدت حياتها بغياب الكهرباء كما نفد فيه أيضاً صبر العراقي على الانتظار وتسبب بنفسه في تفاقم أزمة المرور التي يعاني منها هذه الأيام.
في تقاطع الفلاح قرب مستشفى الجوادر وقف صبية صغار لا يتجاوز عمر أكبرهم الخمسة عشر عاماً، بدا أحدهم ينظم حركة مرور السيارات وكأنه يمارس هواية محببة لديه أصبح يفضلها على اللعب مع أقرانه في الشارع.
سألت أحدهم وكانوا أربعة وهو علي كاظم من مواليد 1987 عن سبب وقوفه في هذا التقاطع فأجاب:
نحن متطوعون نقوم بتنظيم السير في هذا التقاطع الذي يشهد اختناقاً مرورياً شديداً وعلى مدار ساعات النهار.
* ألا يوجد هنا رجل مرور؟
كلا
* وهل يمتثل سائقو السيارات لأوامرك؟
معظمهم لا يسمعون كلامنا فهم لا يحترمون أحداً وليس لديهم صبر أيضاً.
* أليس من المفروض أن تكونوا في مدارسكم في هذا الوقت؟
لم ألتزم بدوام في مدرسة أو عمل لأني تركت المدرسة عندما كنت في الصف الخامس الابتدائي وهنا قاطعه زميله صفاء خالد مواليد 1989:
أنا في الصف الأول المتوسط ولكن حتى الآن لم ينتظم الدوام في إعدادية الثورة التي أدرس فيها حيث لم توزع علينا الكتب المدرسية حتى الآن وأكدت لنا الإدارة أنها ستقوم بذلك في الشهر القادم.
أما مصطفى جبار مواليد 1993 فقد أكد بأنهم يأخذون دور رجل المرور في الشارع بعد الظهر فقط إلا أن نداء الواجب وشدة الازدحام قد أحضرهم في مثل هذا الوقت عدتُ الى علي كاظم وسألته: هل تتقاضون أجراً عن عملكم هذا؟
قبل فترة طويلة حضر أحد شيوخ الحوزة الى هذا التقاطع وقام بتسجيل أسمائنا إلا أننا لم نستلم لحد الآن أي شيء رغم وقوفنا هنا يومياً من الساعة الثالثة ظهراً حتى موعد الإفطار ولا نترك التقاطع حتى يخلو الشارع من السيارات.
من هو عبدو؟
ويبدو أن أزمة المرور لم يشارك في حلها رجال المرور وأصدقاؤهم والمتطوعون فقط بل المجانين أيضا حيث ذكر الصبية أن شخصاً يكنى ب (عبدو) ابتدع طريقته الخاصة في إيقاف السير في هذا التقاطع فهو لا يستخدم يديه أو صافرته بل مسدساً ورمانات يستخدمها في تهديد كل من لا يمتثل لأوامره المرورية بالقتل حتى كاد يقتل قبل أيام قليلة أحد سائقي السيارات لولا عناية الله وإزاء هذا الموقف تبرع أحد السائقين نيابة عن زملائه بمعاقبة المجنون بطريقته الخاصة.
ولا نعرف هل ترك عبدو هذا التقاطع أم اختار لنفسه مهنة أُخرى تتيح له استخدام المسدس والرمانات بحرية كاملة.
يتقاضون رواتب بلا عمل
وفي تقاطع آخر شاهدنا الشاب يعقوب جبارة وقد استطاع بصوت صافرته الحاد أن يجعل الآخرين يذعنون لأوامره بسهولة وهو يقول تطوعت للعمل في هذا التقاطع لوجه الله تعالى منذ اكثر من شهرين ومع ذلك لم يبادر أحد من رجال الدين او المسؤولين في المجال البلدي في تعييني كصديق مرور رغم عدم وجود شرطي مرور في هذا التقاطع وقد أجبرت أن اعمل أيضا منظفا في البلدية كي أعول عائلتي كبيرة العدد صباحا لامارس عملي هنا منذ الساعة الواحدة حتى وقت الغروب. أما الأشخاص الذين قامت الحوزة بتشغيلهم فقد حضروا ليومين فقط بعد أن طلبوا منا أن نعمل العصر على أن يتولوا هم مسؤولية تنظيم السير في هذا التقاطع صباحا ومن ثم اختفوا نهائيا لذلك اشعر بالألم حقا لانهم يتسلمون راتباً من الحوزة وهم يجلسون في بيوتهم.
ويبقى عبدو هو الرابح الوحيد في بلد صارت الفوضى هي دستوره الدائم
|