رفع معالي الشيخ الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي عضو هيئة كبار العلماء الأمين العام لرابطة العالم الاسلامي شكره وتقديره لصاحب السمو الملكي الامير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام ورئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية على توجيهاته بإصدار موسوعة في التفسير «الدر المنثور»، وتفضله بتحمل تكاليف توزيعه على طلبة العلم، والمشتغلين به.. مؤكداً أن هذا العمل يعد حلقة جديدة في سلسلة السوابق البيضاء المشكورة، والأعمال المبرورة لولاة الأمر حفظهم الله في خدمة القرآن الكريم والأمة الاسلامية، وأضاف د. التركي ان دعم وحماس سمو الأمير سلطان كان له أكبر الأثر في سرعة إنجاز هذا العمل الضخم، واقتراب توزيعه على طلبة العلم.. سائلاً الله جل وعلا أن يجزل المثوبة لكل من كان عونا في إخراج هذا الكتاب العظيم سواء بالرأي والمشورة، أو بتوفير المخطوطات أوالتحقيق والتثبت.
وقد كتب د. عبدالله التركي هذه الكلمة في هذه المناسبة لتنشر في صحيفة الجزيرة :-
من عظيم نعم الله على عباده، وتمام حجته على خلقه، أن جعل معجزة النبوة الخاتمة وآيات الرسالة الإسلامية العامة لجميع الثقلين، خالدة الى يوم الدين، فكان إنزال الله تعالى كتابه الكريم {تٌبًيّانْا لٌَكٍلٌَ شّيًءُ وّهٍدْى وّرّحًمّةْ وّبٍشًرّى" لٌلًمٍسًلٌمٌينّ} {بٌلٌسّانُ عّرّبٌيَُ مٍَبٌينُ} على قلب خاتم الأنبياء والمرسلين؛ نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، المبعوث رحمة للعالمين، معجزة ظاهرة، وحجة قاطعة باهرة، في استمراره محفوظاً، واشتماله على ما يعجز الجن والإنس عن الإتيان بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. وكما جعله معجزا بألفاظه ومعانيه، فكذلك جعله هادياً من ضلالات الاعتقاد، ومرشداً من حيرات الأفهام والأفكار، ومتعبَّداً بألفاظه تلاوة وسماعاً، وأفقرَ الخلقَ طُرَّاً إلى هدايته، وإلى تعاهد الإيمان به؛ اعتقاداً بالجنان وقولاً باللسان وعملاً بالأركان.
فالقرآن العظيم آية باقية بقاء الدهر، ومعجزة خالدة خلود الليل والنهار، بما اشتمل عليه من فصاحة الألفاظ، وبلاغة النظم، وجزالة الأسلوب، وحكمة في الأمر والنهي، وبيان أسماء الله الحسنى وصفاته العلا. وأعجز الخلق بما تضمنه من الدلائل القاطعة، والحجج الساطعة، وبما ضرب فيه من الأمثال البالغة، وأخبر به من المغيبات، وغير ذلك من العجائب الخارقة للعادة. فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: «ما من الأنبياء نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثلُه آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون اكثرهم تابعاً يوم القيامة»(1).
وقد عهد الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ببيان كتابه العزيز، فقال عز وجل: {وّأّّنزّلًنّا إلّيًكّ الذَكًرّ لٌتٍبّيٌَنّ لٌلنَّاسٌ مّا نٍزٌَلّ إلّيًهٌمً وّلّعّلَّهٍمً يّتّفّكَّرٍونّ} (النحل 44) واستدل كثير من الأصوليين والفقهاء بهذه الآية على حجية السنة، واعتبار منزلتها من الكتاب العزيز، وأنها تعد شرحاً وبياناً له.
* وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم على أتم وجه وأكمله، فما كتم منه شيئاً أبداً. قالت عائشة رضي الله عنها: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي، لكتم هذه الآية: {وّتٍخًفٌي فٌي نّفًسٌكّ مّا اللهٍ مٍبًدٌيهٌ وّتّخًشّى النّاسّ وّاللَّهٍ أّحّقٍَ أّن تّخًشّاهٍ} *الأحزاب: 37*(2).
وأما بيان المعاني فقد أوحي الله سبحانه وتعالى إليه بذلك عن طريق السنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه»(3). قال ابن قتيبة: يريد أنه أوتي الكتاب ومثل الكتاب من السنة، فبيان معاني القرآن الكريم جزء من السنة(4). النبوية الشريفة. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسر القران للناس حرفاً حرفاً على النحو الذي نعهده من مجالس التفسير التي يعقدها العلماء في المساجد ودور العلم، ولكنه كان يعرض لذلك تبعاً لأسباب تتقدمه وتقتضيه، من مثل سؤال يصدر من بعض الصحابة عن آية أو كلمة أشكل عليهم معناها، واستغلق عليهم تأويلها، فيجيب النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بما يفيد تفسيرها، وقد يذكر واقعة ماضية لها صلة يسيرة نبي من الأنبياء، أو بدء الخلق أو أخبار الأوائل، ثم يحيل على ما جاء في القرآن بشأن ذلك، فيقع كلامه صلى الله عليه وسلم مفسراً كلام الله، أو يذكر وعداً أو وعيداً أو خبراً يتعلق بيوم القيامة وما يليه، أو غير ذلك، على نحو يكون في ذلك الخبر تفصيل لما أجمل في آية دلت على معناه.
وقد كان السلف لا يأخذون القرآن إلا ويتعلمون تفسيره، كما روى الطبري عن ابن مسعود؛ قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن(5). وعن أبي عبدالرحمن السلمي، قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلِّفوها حتى يعلموا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً(6).
وقد مر تفسير القرآن الكريم بمراحل زمنية مختلفة، حتى صار إلى الحال التي نعهدها منه الآن. ففي زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقصوراً عليه، فحفظ الصحابة هذا التفسير وتناقلوه ورووه لمن بعدهم من التابعين.
ولما كان الصحابة أعمق الناس علماً، وأبرهم قلوباً، وأقلهم تكلفاً، وأقومهم هدياً، فقد قل في زمنهم الخوض في التفسير والتكلم فيه، إلا ثلة ممن آتاهم الله بسطة في العلم، وبصيرة بالتأويل، كعلي وابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب، رضي الله عنهم أجمعين.
كما أن ثلة من التابعين منهم مجاهد بن جبْر، وسعيد بن جبير، والضحاك بن مزاحم، وقتادة بن دعامة، ومقاتل بن حيان، والربيع بن أنس، وأبو العالية الرياحي، اشتغلوا بتفسير القرآن؛ رواية له عمن سبقهم من الصحابة واجتهادا فيه بما عندهم من العلم باللغة وأسباب النزول، وغير ذلك.
ولم يكن التابعون حائدين عن سنن الصحابة في التورع عن التجاسر على التفسير إلا بعلم، قال الترمذي إثر حديث: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» وهكذا رُوي عن بعض أهل العلم من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، أنهم شددوا في هذا؛ في أن يفسر القرآن بغير علم. وأما الذي روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم، أنهم فسروا القرآن، فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن أو فسروه بغير علم، أو من قبل أنفسهم، وقد روي عنهم ما يدل على ما قلنا؛ أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم(7).
ولما انتهى الأمر الى عصر التدوين، ظهر التفسير مدوناً في صحائف مفردة، كصحيفة علي بن أبي طلحة التي روى فيها تفسير ابن عباس، وكالجزء المنسوب لأبي روق عطية بن الحارث الهمداني، والأجزاء التي يرويها محمد بن ثور عن ابن جريج(8)، وتفسير مالك بن أنس، ووكيع بن الجراح، وسفيان بن عيينة، وأبي نعيم، وآدم بن أبي إياس، وغيرهم(9)، وخرج بعض أئمة التصنيف في الحديث ما وقع لهم من التفسير المسند الذي يلتئم على شروطهم في كتبهم الجامعة، كالصحاح والسنن، بعضه رووه من تلك الصحف المفردة وبعضه من غيرها.
وهكذا أخذ ظل التفسير يتمدد طبقة بعد طبقة، إلى أن جمع في دواوينه الكبيرة الجامعة التي ظهرت في مطالع القرن الرابع، كتفسير أبي بكر بن المنذر، وتفسير الطبري، وتفسير ابن أبي حاتم.
* (11).
* قال ابن عباس: الحكمة المعرفة بالقرآن؛ ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه وأمثاله(12).
*(13).
فينبغي أن يتفحص المفسر أسباب نزول الآية أولاً، ويعرف موقعها مما قبلها وما بعدها من السياق، وهل هي من المكي أو المدني، وهل هي من أول ما نزل أو من آخره، أو مما دون ذلك، وهل هي مما نسخ حكمه أو مما أُحكم.. فإن المعرفة بهذه الجوانب تعين على الفهم، بل بعضها يعتبر جزءاً من التفسير، فإن الوقائع التي كانت أسباباً في النزول تدخل في معنى الآية دخولاً قطعياً وأولياً، وإن كانت لا تقيد مطلقه ولا تخصص عمومه، بل هي كالمثال للقاعدة العامة. ثم عليه أن ينظر في الإعراب، فإنه يتقوَّم من المعنى ويرجع إليه ثم يبحث عن بيان المشكل وتفصيل المجمل في مواضع أُخر من القرآن؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً، فإن لم يكن ففي السنة، فإنها شرحه وبيانه، فإن لم يكن فيها ففي أقاويل الصحابة؛ فإنهم اختصوا بمشاهدة أسباب التنزيل وملابساته، وإن لهم قدم صدق في تمام الفهم، وصحيح العلم، وصالح العمل، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم. فإن لم يكن ففي أقوال التابعين. ويعتمد في معرفة معاني الألفاظ الغريبة على ما نقل من لغة العرب المحفوظة في دواوين الشعر الجاهلي، وقد أرشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الى ذلك بقوله: يا أيها الناس، عليكم بديوانكم شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم 14.
وإذا اتفق السلف من الصحابة أو التابعين، على معنى آية أو حرف من كتاب الله، فإن ذلك حجة على من بعدهم، لا يجوز تعديها، وأما إن اختلفوا في شيء من ذلك، فإن على المفسر ان يستوعب الخلاف ويتحققه، قبل أن يرجح شيئاً من ذلك. قال الحافظ ابن كثير: أحسن ما يكون في حكاية الخلاف، أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن تنبه على الصحيح منها، وتبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته، لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فتشغل به عن الأهم فالأهم.
فأما من حكى خلافاً في مسألة، ولم يستوعب أقوال الناس فيها، فهو ناقص، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه. أو يحكي الخلاف ويطلقه، ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضا. فإن صحح غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب، أو جاهلاً فقد أخطأ. وكذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقوالاً متعددة لفظاً، ويرجع حاصلها الى قول أو قولين معنى، فقد ضيع الزمان، وتكثَّر بما ليس بصحيح، كلابس ثوبي زور 15.
فإذا تم له ذلك، أعمل جهده في الموازنة والترجيح بينها بما تفيده دلالات اللغة وأساليبها، مع معونة القرائن الخارجية.
التفسير بين الأثر والرأي:
عرف في طرق التفسير طريقتان: طريقة التفسير بالمأثور، وهي الطريقة التي شاعت على عهد السلف، وطريقة التفسير بالرأي، وقد غلبت على تفاسير الخلف. ولكل من الطريقتين خصائصها وميزاتها.
ويشمل التفسير بالمأثور التفسير القرآني للقرآن، وتفسير السنة المرفوعة، والموقوفة على الصحابة، والمقطوعة على التابعين. وجمع هذا النوع من التفسير جماعة من فضلاء أهل الحديث، من مصادره المبكرة التي سبقت الإشارة الى بعضها، قال الحافظ ابن حجر في أوائل كتابه «العجاب في بيان الأسباب»: الذين اعتنوا بجمع التفسير المسند من طبقة الأئمة الستة: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، ويليه أبو بكر محمد بن ابراهيم بن المنذر النيسابوري، وأبو محمد عبدالرحمن بن أبي حاتم بن إدريس الرازي، ومن طبقة شيوخهم: عبدُ بن حميد بن نصر الكشي. فهذه التفاسير الأربعة قلَّ أن يشذ عنها شيء من التفسير المرفوع، والموقوف على الصحابة، والمقطوع عن التابعين. وقد أضاف الطبري الى النقل المستوعب أشياء لم يشاركوه فيها، كاستيعاب القراءات والإعراب، والكلام في أكثر الآيات على المعاني، والتصدي لترجيح بعض الأقوال على بعض، وكل من صنف بعده لم يجتمع له ما اجتمع فيه؛ لأنه في هذه الأمور في مرتبة متقاربة، وغيره يغلب عليه فن من الفنون، فيمتاز فيه ويقصر في غيره 16 .
ومن أبرز مصادر التفسير بالمأثور أيضا: تفسير بقي بن مخلف الأندلسي، الذي قال فيه ابن حزم: ما صنف في الإسلام مثل تفسيره أصلاً؛ لا تفسير محمد بن جرير، ولا غيره 17. وكذا تفسير الثعلبي ويقال الثعالبي والواحدي، والبغوي، وأبي بكر بن مردويه.
ومن محاسن التفسير المنقول عن السلف انه عمدة العلماء وعدتهم التي يعتدونها في بيان القرآن الكريم وتفسير نصوصه، وما يثمره هذا البيان من إثبات حكم من الأحكام التكليفية، أو الوضعية؛ كالشروط والموانع والأسباب. كما ان من محاسنه انه أساس التفسير بالرأي، فإن الرأي المقبول شرعاً هو ما استند الى نقل يشهد له بالصحة والاعتبار. وفي جانب هذه المحاسن تظهر بعض المآخذ الدخيلة على هذا النوع من التفسير، كالروايات الضعيفة والواهية والموضوعة، والأخبار الاسرائيلية التي سيقت مساق التسليم والقبول. وقد اشتملت بعض التفاسير على شيء غير قليل من هذا الدخن، فقد روي في ذلك عن ابن عباس آلاف الأحاديث، على حين لم يثبت منها ما يجاوز المائة 18، مما يفرض على الإنسان التوقف فيما لا يتميز عنده منها، حتى لا يقبل باطلاً ولا يرد حقاً.
وأما التفسير بالرأي، فهو التفسير الذي يكون بطريق الاجتهاد في فهم المعنى، بالاعتماد على كلام العرب ومناحيهم في القول، مما هو منقول في الشعر الجاهلي، مع معونة السياق، وأسباب النزول، ومعرفة المأثور، وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليها المفسر 19. وقد كان التفسير بالرأي قليلاً في زمن السلف من الصحابة والتابعين؛ لما عرف عنهم من طرح التكلف، وتحاشي القول بالرأي، خوفاً من القول على الله بغير علم، مع ما جاء من آثار في الترهيب من التفسير بالرأي.
ولكن الأمر لم يستمر مستقيماً على هذا النحو، بعد ان دعت الدواعي من بعدهم الى بذل الجهد في تلمس معاني كتاب الله، وتطلب تفسيره وتأويله 20، حيث دخلت العجمة الى اللسان العربي، وخاض أهل الزيغ في تفسير القرآن لانتزاع ما يؤيد زيغهم بضروب من التأويل الفاسد، أو ما يتفق مع أهوائهم بما يدل عليه ظاهر اللفظ في بادئ النظر، كما أقبل بعض الفقهاء على بسط الفروع المتكاثرة، محاولين الاحتجاج لها بالقرآن، ولو من أضعف الوجوه.
وهكذا ظهرت الحاجة الى بيان كل ما يتعلق بالآية الواحدة من وجوه القراءات والأعاريب، وإبراز المعاني البلاغية للنظم، واستنباط الفوائد والمواعظ والعبر والأحكام الفقهية. كما ظهرت الحاجة الى الموازنة بين ما روي عن الصحابة والتابعين من خلاف في تفسيرها، وبيان الراجح منها، مع نقد الأقاويل التي يراها المفسر غير صحيحة. فعُني المسلمون به عناية فائقة، حتى إن الإنسان إذا ذهب يعد التفاسير التي دوّنها العلماء، كَلٌّ جهده دون ان يحيط بمجموعها، وها هي ذي مكتبة التفسير المطبوعة وحدها تربو على سبعين عنواناً.
وللتفسير بالرأي محاسنه كما ان عليه جملة من المآخذ. فأما محاسنه فلا تخفى على أحد، إذ ما من أحد يحتاج الى معرفة معنى آية في كتاب الله لإعداد درس، أو محاضرة، أو بحث علمي، إلا ويجد في نفسه دافعاً للتردد بين كتب التفسير لمعرفة ما قيل فيها من وجوه النحو والقراءات والمعاني والأحكام والآداب والمواعظ، بالإضافة الى أسباب النزول والتفسير المأثور الذي دخل في كثير من كتب التفسير بالرأي مختصراً ملخصاً.
ويلاحظ الناظر لدى المقارنة تفاوتاً بين المفسرين في الإحاطة بالمعنى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، كما في صحيح البخاري عن وهب بن عبدالله السوائي، قال: قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهماً يعطيه اللّه رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة.. الحديث. فقد يوجد لأحدهم بما فتح الله عليه من الفهم كلام في غاية النفاسة والدقة والشمول، مما يشعر بأن محاسن التفسير بالرأي تظهر قوية ومتنوعة بالنظر الى المجموع.
أما إذا نظرنا الى كل تفسير بخصوصه، فإننا سنضع أيدينا على جملة من المآخذ؛ كالتعسف والتكلف في حمل معاني الآيات على ما يقتضيه مذهب المفسر في الفقه، أو نحلته في الكلام، أو نزعته العقلية، كإدراج ما لا صلة له بالتفسير من القضايا الكلامية، والمباحث اللغوية، وخواص الأشياء، وغير ذلك مما نجده في بعض الكتب المطولة.
وفي خاتمة هذا المقال نعرف بأهم كتاب أودع فيه صاحبه زبدة ما اشتملت عليه كتب التفسير بالمأثور التي صنفها السلف، وأصبح كثير منها الآن في حكم المفقود. وهذا الكتاب هو الموسوم بعنوان:
الدر المنثور في التفسير بالمأثور:
للحافظ أبي الفضل عبدالرحمن جلال الدين السيوطي القاهري المتوفى سنة 911هـ. وهو كتاب عجيب في تأليفه بديع في تصنيفه، لم يؤلف في الإسلام مثله، أودع فيه ما وصل إليه من التفاسير المبكرة، التي جمع فيها الأئمة المتقدمون تفسير القرآن مما سبقت الإشارة الى بعضه. ثم انه لم يكتف بما ورد من الآثار في جوامع التفسير السلفية، بل استكمل عمله بما أخرجه المصنفون في السنة في الجوامع والسنن وغيرها، مما رووه في التفسير وما يتعلق به من أسباب النزول، ونحوها. وقد التزم ان يجرد كتابه من الرأي تجريداً تاماً، فجاء دراً نثيراً، ومجمعاً كبيراً للأحاديث والآثار الواردة في التفسير، وما يتعلق به، وكشافاً بأسماء المكتبة التفسيرية السلفية. وقد نافت المصادر التي اعتمد عليها السيوطي في جمع أصول هذا الكتاب، على أربعمائة كتاب21.
وقد تنوعت موارد «الدر المنثور» على نحو يشمل معظم ما زخرت به المكتبة الإسلامية من كتب تراثنا في كثير من فنونه؛ منها التفسير، وعلوم القرآن، كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والقراءات، والمصاحف، وفضائل القرآن، ومنها دواوين الحديث، من الصحاح والجوامع والمسانيد والمصنفات والمعاجم والأجزاء، ومنها المغازي والسير، والتاريخ وتراجم الأعلام، والعقيدة، والمواعظ والزهد والأدب، وكتب الأذكار والأدعية وعمل اليوم والليلة، وكتب الفتن والملاحم، وكتب اللغة والشعر، وغيرها. فنقل لنا الجلال السيوطي، بواسطة كتابه هذا، جملة وافرة من التصانيف التي فقد بعضها فلم يبق منه إلا اسمه، أو ما نقل عنه في كتب أخرى، وبعضها بقيت منه قطع صغيرة.
وبالجملة، فإن أهمية الكتاب تبرز بوجه خاص، فيما حفظ لنا من النصوص والروايات التي اندثرت أصولها، فلم يصل إلينا منها شيء، ولو لم يكن للسيوطي من الفضل في هذا الكتاب، سوى ما أوْقَفَنا عليه من الكتب المندرسة، لكفاه.
فجاء عملُه رحمه الله نسيج وحده، عملاً لا ينقاد إلا لأمثال مؤلفه في غزارة علمه، وسعة اطلاعه، وشدة استقصائه وصبره النادر، وسيلان قلمه، مع أمانة في العَزْو إلى كتب المصنفين، إلا ما سقط منه بسبيل السهو.
وكان الجلال السيوطي قد جمع كتابين آخرين قبل ذلك، سمى أحدهما «مجمع البحرين ومطلع البدرين»، وهو الذي جعل كتابه «الإتقان» مدخلاً له. وسمى الآخر «ترجمان القرآن» وهو تفسير مسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، رضي الله عنهم23. ثم اختصر من ذلك التفسير المطول كتابه «الدر المنثور»، بحذف الأسانيد والاقتصار على المتون؛ لما رأى من قصور همم أهل زمانه عن تحصيل المسندات، ورغبتهم في المختصرات المقتصرة على المتون.
وقد قصد السيوطي أن يجمع في كتابه هذا، كل ما أثر في التفسير من الأحاديث والآثار، ولم يلتزم شيئاً من الشروط التي تقيد عمله في الجمع، فتدخل بعضاً وتخرج بعضاً، فاستوعب معظم المرويات التي خرَّجها السلف في التفسير وما يتعلق به، شأن صنيعه في جامعه الكبير في الحديث، الذي قصد فيه إلى جمع السنة في موسوعة واحدة، فاشتمل الكتابان على الصحيح والحسن والضعيف، بل والأحاديث المنكرة والواهية، وما أدُّعي فيه البطلانُ والوضعُ، خاصة في الإسرائيليات المروية في بدء الخليقة، وقصص الأنبياء، وأخبار الأوائل.
وعلى الرغم من علو مكانة السيوطي رحمه الله في الحديث وعلومه، وطول باعه فيه راوية ودراية، بيد أنه كان قليل النقد للمرويات التي أوردها في كتابه هذا. ولعل عذره في ذلك أنه كان مصروف الهمة إلى الجمع والاستيعاب، دون التحقيق والنقد، وتلك كانت سمة ظاهرة على عامة مصنفاته، فإنه ينزع فيها عادة؛ إما إلى الاختصار، وإما إلى الجمع لما سبقه من التصانيف، فيودعها في كتاب واحد. وقد حكم على ثلة من الأسانيد بما فيها من صحة أو ضعف، فتراه يعقدها بلفظ مختصر في عقبها بمثل قوله: أخرج فلان بسند صحيح، أو بسند لا بأس به، أو بسند جيد، أو بسند قوي، أو بسند رجاله ثقات، أو بسند مقارب. وبمثل قوله: أخرج فلان بسند ضعيف، أو بسند واه، أو بسند لين، أو بسند فيه مجهول أو مجاهيل، أو بسند ضعيف جداً...
ولما كان كتاب «الدر المنثور» كتاباً، جامعاً لما روي عن السلف في تفسير القرآن الكريم؛ لا غَناء عنه لطالب علم التفسير، فقد انقدحت بالفكر رغبة في تحقيقه وإخراجه في حلة قشيبة، إخراجاً يليق بقيمته ومكانته، فالحمد لله على ما وفقنا إليه من ذلك.
وقد طبع «الدر المنثور» أول مرة في المطبعة الميمنية، في سنة 1314هـ، أي منذ ما يزيد على القرن، وبهامشه تنوير المقباس من تفسير ابن عباس الذي جمعه الفيروزآبادي، صاحب القاموس وصدر في ستة أجزاء صفحاته مصفوفة من أولها إلى آخرها في تتابع غير منفصل، ثم صدر الكتاب بعد ذلك عن هذه الطبعة عدة مرات. ثم طبع طبعة أخرى مستقلة في دار الفكر ببيروت سنة 1403هـ، وتقع هذه الطبعة في ثمانية مجلدات، وقد جاءت رؤوس التخاريج فيها مبتدَأة في أوائل السطور. وتكاد تكون هي الطبعة المتداولة إلى الآن، وهي طبعة صعبة التناول، عديدة السقط، فيها تداخل بين بعض الآثار، خالية من التعليق على النصوص.
فاستعنا بالله على تحقيق الكتاب بالتعاون مع مركز هجر للدراسات العربية والإسلامية، ويسر الله لنا مجموعة من الأصول الخطية، أُتم بها ما وقع في الطبعة السابقة من نقص، وصُح ما وقع فيها من تصحيف. ولإتمام الفائدة تم عزو ما أمكن من الآثار إلى مواضعها من مصادرها، إن كانت موجودة، أو إلى الوسائط التي تضمنتها إن كانت مفقودة، مع ذكر ما حكم به علماء الفن من حكم على الحديث صحة وضعفاً، على قدر ما أسعفنا الجهد والإمكان، وشرح غريب الألفاظ، والتعليق على القراءات، راجين في الأخير أن يبلغ الله المقصود من هذا الديوان الكبير الجامع النافع.
وها هو ذا صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، ووزير الدفاع والطيران، والمفتش العام، ورئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، يتفضل بتحمل تكاليف توزيع هذا الكتاب الجليل على طلبة العلم والمشتغلين به، وهو يعقد بعمله هذا حلقة جديدة في سلسلة من السوابق البيضاء المشكورة، والأعمال المبرورة في هذا المجال، فقد تكفل بتوزيع العديد من الكتب العربية والإسلامية، وقدم للعلم وطلابه خدمات جُلَّى، ليس هذا محل حصرها، فأجزل الله له المثوبة، وجعل ذلك في صحائف أعماله المبرورة وشكر له جهده وما أنفق في سبيله..
وإذ أزف البشرى بانتهاء العمل في هذا التفسير، واقتراب توزيعه على طلاب العلم، فإني أسأل الله أن يجزل المثوبة لكل من كان عوناً على إخراج هذا الكتاب العظيم، إن بالرأي والمشورة، وإن بتوفير المخطوطات، وإن بالتحقيق، إلى غير ذلك مما استدعاه العمل في الكتاب من جهود متنوعة، شاكراً للجميع تعاونهم وعونهم.
وصلى الله وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين، نبينا وقدوتنا محمد بن عبدالله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
( * ) الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي
وعضو هيئة كبار العلماء
الحواشي:
1 أخرجه الشيخان عن أبي هريرة، وهذا لفظ مسلم.
2 أخرجه الشيخان، وأخرج البخاري مثله عن أنس بن مالك.
3 أخرجه أحمد وأبو داود عن المقدام بن معد يكرب.
4 تأويل مختلف الحديث ص 195، ط. دار الجيل بيروت 1393ه.
5 جامع البيان 1/80.
6 جامع البيان 1/80.
7 سنن الترمذي ومعه تحفة الأحوذي للمباركفوري 8 2/88.
9 - ينظر: مصادر السيوطي في كتابه الدر المنثور، للدكتور عامر صبري.
10 - تفسير القرطبي 1/26.
11 تفسير القرطبي 1/26.
12 - أخرجه الطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم، كما في الدر المنثور : 2/66.
13 أخرجه البخاري عن ابن مسعود.
14 تفسير القرطبي 10/11.
15 تفسير القرآن العظيم 1/8.
16 العجاب 1/202 203.ط.دار ابن الجوزي، 1997م. نقله السيوطي في خاتمة الدر المنثور 8/699.
17 سير أعلام النبلاء 13/288، كشف الظنون 1/444، الرسالة المستطرفة ص 77.
18 الإتقان 2/189.
19 التفسير والمفسرون 1/255.
20 ينظر: التفسير والمفسرون 1/255 265، فقد بحث الذهبي بإسهاب موقف العلماء من التفسير بالرأي، واستعرض أدلة المانعين والمجيزين، وبين ما أجاب به المجيزون على أدلة المانعين واحداً واحداً.
21 أعد الدكتور عامر حسن صبري دراسة بعنوان: مصادر السيوطي في «الدر المنثور»، استوعب فيها جميع المصادر التي نقل عنها السيوطي، وموضع كل نقل. ونشرت في مجلة كلية الآداب، بجامعة الإمارات، العدد الرابع 1408ه 1988م، من ص 191 234.
22 ينظر: الإتقان 2/190.
23 وقال في آخر الإتقان (2/183): وقد جمعت كتاباً مسنداً، فيه تفاسير النبي صلى الله عليه وسلم، فيه بضعة عشر ألف حديث؛ ما بين مرفوع وموقوف، وقد تم ولله الحمد في أربعة مجلدات، وسميته: «ترجمان القرآن».
|