* جاء العيد عند السعوديين هذا العام؛ بوجه مختلف عما عودنا عليه في الأعوام السابقة؛ فقد اصطبغ بألوان الدماء والنار والدمار؛ ولولا ما وقع من مراجعات فقهية؛ ثم تراجعات من بعض مرجعيات العنف الديني في البلاد؛ لكانت المرارة طاغية على ما سواها. ولكن الله لطف، فانتصر الحق، وبلغ الموقفان السياسي والأمني للمملكة؛ أوج نجاحهما؛ الذي تمثل في خلخلة جدار الإرهاب؛ والبدء في تفكيك بناه الشيطانية؛ حتى أعلن بعض مشايخ التكفير؛ توبتهم مما سبق لهم من فتاوى تدعم الإرهاب في البلاد.
* أقول بادئ ذي بدء؛ بأن ما بدر من مراجعات من اثنين من رموز التكفير والعنف في المملكة؛ هما (الخضير والفهد)؛ يعد نقطة ضوء مشجعة في نفق مظلم؛ وعلينا في هذه الظروف الصعبة؛ الترحيب بذلك؛ وتعزيز هذا المؤشر الايجابي؛ في اتجاه عودة الوعي الى الشريحة التي فقدت توازنها؛ فضلّت وأضلَّت؛ وجرَّت البلاد والعباد الى شفا حفرة هاوية؛ لولا عناية الله؛ ثم القبضة الأمنية الأمينة لأجهزة الأمن السعودية.
* ما من شك؛ ان عودة وتوبة الشيخين (الخضير والفهد)؛ وضعت مشروع العنف التدميري بين خيارين لا ثالث لهما؛ فإما عودة شاملة راشدة الى الحق؛ أو تقدم انتحاري يكون فيه فناؤه وهلاكه، هذه فائدة مباشرة من التوبة المعلنة؛ يضاف اليها فائدة أهم منها هي: قطع الطريق على المزايدين والمنتفعين من وراء العنف؛ فمثل هؤلاء؛ ومنهم شيوخ أعتى من (الخضير والفهد)، كان لهم باع طويل في التكفير والتثوير؛ وذلك منذ زمن التنظير في مسائل التنفير، ومنها (الحداثة والعلمنة)..! ومنها توزيع صكوك التكفير على الكُتَّاب والمفكرين والمثقفين، تهيئة ليوم تسيل فيه الدماء، ويشرع فيه السفهاء والسفلاء والبلهاء؛ في تخريب ديارهم بأيديهم..!
* حسناً فعل الشيخان التائبان؛ نسأل الله لهما القبول والمغفرة من رب العالمين.. لقد تابعت كلامهما عبر التلفزة السعودية، وكنت أنتظر من الشيخ «عايض القرني»؛ خاصة وهو الخبير بفكر وتوجهات وانتماءات هذا التيار المتشدد؛ ان يسألهما عن علاقتهما أو رأيهما في «منظمة القاعدة»، وفيما أقدمت عليه من ارهاب وعدوان سافر على المدن الأمريكية والسعودية وغيرها..! إلا أنه ربما نسي أن يفعل؛ أو أنسي (؟!) ذلك. فالأصل في المشكل القائم في المملكة اليوم؛ هو العلاقة المتجذرة بين رموز التكفير والعنف هنا؛ وبين منظمة القاعدة هناك؛ وبالتالي.. افتتان الأتباع من الجهلة والشبان الأغرار؛ بطروحات المفتن الأكبر (ابن لادن)، حتى ظن بعضهم - وبعض الظن إثم - ان المدعو (ابن لادن)؛ هو ظلّ الله على الأرض، وأن ما يمارسه من قتل وتخريب وتدمير؛ إنما هو الجهاد المشروع في الاسلام، وغفل أو تغافل هذا البعض؛ ان هذا هو «جهاد ابن لادن» وحده، مفصل على عَوَرِه وصَوَرِه؛ وليس جهاد الاسلام الذي نعرفه..! ثم ان تحدي هؤلاء النفر الضالين؛ من شيوخ الارهاب؛ ومن تلامذتهم وأتباعهم؛ للدولة السعودية والمجتمع السعودي؛ إنما كان ردة فعل متسرعة وغبية لحادث «11 سبتمبر» المشؤوم، فقراءة الجاهل للحوادث الجسام؛ إنما تزيده جهلا على ما به من جهل.
* بعد ذلك؛ تبقى هناك أمور غاية في الأهمية؛ لا بد من فهمها وحسمها؛ لأن ما بدر من شيخين محسوبين على مشيخة تكفيرية؛ ومرجعية متطرفة في المملكة؛ هو في حقيقة الأمر؛ اعتراف صريح بجرم الارهاب؛ سواء وقع على أرض المملكة؛ أو في غيرها من البلدان، وهذا الأمر يعني بشكل مباشر؛ أكثر من طرف في هذه القضية، فهناك الدولة السعودية؛ التي اعتدي على كيانها، وهناك المجتمع السعودي؛ الذي رُوِّع وفجع، وهناك أهل الدم من عرب وعجم.. فهل يظنن ظان ان المسألة تنتهي بتراجع ورجوع وتوبة؛ ثم «سلوم وتحبيب خشوم»..؟!! وعفى الله عما سلف..! ولا يراك الله إلا محسناً..!!.
* أشك في ذلك؛ لأن الحقوق مهما كانت صغيرة أو كبيرة؛ تظل مصانة في كافة الشرائع والأنظمة، فهي لا تنتهي بالتنادم، ولا تسقط بالتقادم، وهذا فهم ينبغي أن يقوم مقام الوهم؛ في مثل هذا الظرف والهم.
* إن مدرسة التكفير والعنف؛ مدرسة شيطانية لا ريب؛ وهناك رموز كثيرة خرجت من عباءة هذه المدرسة الخبيثة؛ التي تعلم تلاميذها كيف يخربون الأرض، ويقطعون النسل، ويهلكون الحرث، بدل أن تعلمهم رسالة السماء؛ في عَمَار الأرض واحياء الأنفس.. إنها رموز مريبة، ما زالت تخرج علينا عبر الفضائيات الدوارة، والصحف السيارة، وشريط الكاسيت، وهي جادة في التعبئة، وسائرة في التنظيم والحركة..! فهل تظل قائمة على ما هي عليه؛ من شرور وغرور؛ يدفعها ذلك الى رفع شعارات اصلاحية؛ بضمان الجماعات الارهابية؛ التي تتحدث باسمها، وتضع من الشروط «الاصلاحية» الجوفاء؛ ما يضحك ويبكي معاً..؟!
* من يظن ان الأمر قد انتهى عند هذا الحد؛ فقد وهم.. إن أحد أهم عوامل الاستقرار وتعزيز الأمن الوطني، وتمتين اللحمة المجتمعية؛ هو الوقوف بكل حسم وحزم وعزم؛ في وجه الارهاب الفكري، القائم على الفرز الاجتماعي البغيظ، فنحن مواطنون سعوديون أولاً وأخيراً؛ وطننا واحد، ومصيرنا واحد.. هذا إذا أردنا أن نحافظ على كياننا معززاً؛ وأن نحفظ وجودنا مكرماً، ونعيش في سلام ووئام تامين؛ منصهرين في عالم متحضر.
* لقد شكل حادث مجمع المحيا في رمضان الفارط؛ منعطفاً جديداً في التعاطي مع مصادر الارهاب؛ أو هكذا ينبغي أن يكون الحال عليه بعد هذا الحادث، فالتائبان اللذان ظهرا عبر التلفزة؛ ليس هما كل شيء في هذه الصورة، صحيح هما من رموز المرجعية الدافعة للارهاب؛ لكن للارهاب أسباب كثيرة؛ ومنابت خبيثة، ومنابع عديدة، لذا.. وجب النظر الى الصورة كاملة؛ بكل تفاصيلها؛ وليس فقط بعض شيوخ التكفير والعنف ومرتكبي العنف؛ فهؤلاء هم جزء من كل الصورة، وفي الصورة كما نعلم جيداً؛ أسماء كثيرة تشتهر بفتاوى العنف والتضليل والتكريه، وفيها كذلك؛ كتبهم وخطبهم ومحاضراتهم ومناظراتهم وطروحاتهم؛ وأشرطتهم وما أكثرها، وما أخطرها، وهي التي ظاهرها فيه الرحمة؛ وباطنها فيه العذاب.
* حتى اليوم؛ يوجد آخرون كثر؛ ربما هم أكبر وأخطر من «الخضير والفهد»؛ ما زالوا خارج دائرة التوبة والأوبة، ومنهم من يقدم نفسه ممثلا وناطقا باسم الارهابيين في المملكة، فيطلب التفاوض باسمهم..! ويطرح شروطه على الدولة والمجتمع مقابل وقف العنف..! فهل حان الوقت لكشف الأوراق؛ وتعرية كافة المتسببين في الأزمة التي تواجهها بلادنا؛ ويصطلي بنارها مجتمعنا..؟!
* إن حياة الناس أياً كانوا؛ وسلامة وأمن أوطانهم؛ أغلى بكثير؛ وأثمن بكثير؛ من حقول تجارب تديرها فتاوى مضللة؛ أو تعصف بها أهواء وأفكار متشددة ومسيسة؛ ليس لها من هم أو عمل؛ سوى السعي الى «طلبنة» المجتمع السعودي، ناسية أو متناسية؛ أن الشعب السعودي؛ شعب حضاري متطور؛ لا يقبل العودة الى الوراء؛ ويرفض حياة العصور الظلامية؛ التي فرضها (الكهفيون) المعاصرون على الشعب الأفغاني؛ الذي كان مأسوراً قبل (11 سبتمبر 2001م)؛ فمنَّ الله عليه بالنجاة من هذا الأسر.
* أقول مرة أخرى: لقد أحسن الشيخان المتراجعان (الخضير والفهد)، ولعل في توبتهما وعودتهما الى جادة الصواب؛ بداية مشجعة؛ تدفع نحو تصحيح المسار الفكري الخاطئ؛ الذي قاد الى مهلكة عظيمة، عمّت بضررها كافة الناس. ومن أنجع وسائل التصحيح والتصويب؛ أن نعمل في المستقبل تحت شعار: (ترك التكفير؛ ولزوم التفكير).
* إن زمن (المكفرين)؛ يجب أن يتوقف عند هذا الحد، وإن زمن (المفكرين)؛ يجب أن ينطلق..
fax: 02 73 61 552
|