أي متابع للبرامج الحوارية في القنوات الفضائية التي تتحدث عن الوجود الأمريكي في العراق، سيلحظ ظاهرة مؤداها أن ضيوف الحوار العراقيين، وكذلك الغالبية العظمى من المتصلين العراقيين، يُطالبون ببقاء القوات الأمريكية في العراق، حتى تنجلي الغمة، ويضمنون عدم عودة البعثيين من جديد. فقط هم بقية العرب، وبالذات القوميون منهم، سواء من ضيوف هذه الحوارات أو من المتصلين هم الذين يرفعون عقائرهم مطالبين برحيل الاحتلال؛ حتى أن أحد المشايخ الكبار، من مفتيي الفضائيات، انضم إلى جوقة حسب الله، وردد ما يردده القوميون والبعثيون، ومن لف لفيفهم، قائلاً: طالما ان حجة الاحتلال الأمريكي كانت البحث عن أسلحة الدمار الشامل، ولم يجدوها، فما الداعي إذن لبقائهم؟.
رحيل القوات الأمريكية يعني حتما الحرب الأهلية. فليس لدي أدنى شك في أن فلول النظام البعثي السابق مازالت قوية، واقطابها يتحينون الفرص للعودة إلى الحكم بمجرد انسحاب القوات المتحالفة، ناهيك عن أن هناك من الانتهازيين من هم على استعداد لاهتبال أي فرصة تلوح في الأفق لإعلان دولتهم الانفصالية. هذا فضلاً عن ان الفسيفساء العشائرية والمذهبية والقومية التي تتكون منها التركيبة الدميغرافية العراقية مؤهلة أكثر من أي وقت مضى للدخول في صراعات مسلحة، ستكون نهايتها حتما تفتيت العراق إلى دويلات متعددة، فيما لو رحل الأمريكيون وبقية القوات الأجنبية.
وأنا هنا لا أبرر الاحتلال الأمريكي، ولا أدعو إلى بقائه إلى الأبد، غير أنني أطالبُ بالتعامل مع قضية عراق ما بعد صدام بموضوعية، وانطلاقا من ما هو كائن على الأرض، وليس مما يجب أن يكون، وبعيداً عن تلك الشعارات الديماغوجية التي ينطلقُ منها العروبيون، والتي جربناها طوال تاريخنا، ولم نجد فيها إلا مزيداً من التخلف والاستبداد وامتصاص دماء الشعوب والهزائم والمقابر الجماعية. نعم الاحتلال أمرُ مرفوض، ولن يقبل به أي مواطن عراقي حر مخلص، غير أن الحالة التي يمر بها العراقيون والظروف التي تكتنف هذه الحالة، والخصوصية الديمغرافية للعراق، تجعل من العقل والحصافة وبعد النظر عدم الانسياق إلى الشعارات المضللة، وقراءة ما هو قائم بعقلانية وموضوعية، فبقاء القوات الامريكية هو شرُ بلا شك، ولكنه أهون الشرور بكل المقاييس.
ويجبُ أن لا ننخدع بما يُسمى ب «المقاومة العراقية»، فهذه المقاومة إما أنها تريد أن تعيد البعث إلى الحكم، أو أنها من أولئك الذين هم على عداء أيديولوجي مع الأمريكيين وجاءوا للعراق للتنفيس عن احقادهم ليس إلا؛ وهؤلاء لا يهمهم العراق ولا مستقبله بقدر ما يهم البعثيون العودة إلى الحكم، ويهم المؤدلجون هزيمة أمريكا ثم ليذهب العراق إلى الجحيم أو الحروب الأهلية أو إلى مصير طالبان. هذا فضلاً عن أن هذه المقاومة قتلت من العراقيين كما تقول الإحصائيات أكثر مما قتلت من جنود القوات المتحالفة.
وهذا ما لا يدركه الكثيرون ممن يهللون ويصفقون لتلك العمليات التي هي للإرهاب والتشفي أقرب منها لمفهوم مقاومة المحتل.
وإذا كان أهل مكة أدرى بشعابها كما يقولون، فإن أهل العراق أعرف بمصالحهم.
قال لي أحد المثقفين العراقيين في تعبير يحمل الكثير من المؤشرات في هذا الشأن: «العراقيون على استعداد لأن تبقى قوات الاحتلال عشر سنوات، إذا كان البديل هو عودة صدام إلى سدة الحكم والسلطة ولو ليوم واحد». ومن جرب الحكم الصدامي المقيت يجدُ العذر كل العذر لأبناء العراق وهم يصرون على بقاء القوات الأمريكية حتى يتدبروا أمورهم، ويقيموا مؤسسات حكمهم، ويفعِّلوا هذه المؤسسات، بما يضمن عدم عودة «الوحش» وزبانيته إلى السلطة من جديد.
ولا أدري لماذا يصر بقايا الفكر القومي المتخلف المتمثل في بعض العروبيين على فرض «وصايتهم» على العراق والعراقيين، وكأن أهل العراق، بلاد الحضارات، ومنبع الثقافة والمثقفين، مجموعة من القُصَّر، لا يعرفون مصالحهم، ولا يدركون كيف يديرون شؤونهم، دعوا ايها الاخوة العراق للعراقيين، فهم قد تعلموا من تجاربهم، ما يجعلهم أدرى وأعرف ألف مرة في إدارة شؤونهم من بقية فلول الهزائم والنكبات والنكسات من القوميين والناصريين والبعثيين ومن لفَّ لفيفهم.
|