منذ آخر سنة 2001م والمنطقة العربية منشغلة بالدفاع عن دورها الدولي وبالتحضير لما يعرف ب«الحرب ضد الارهاب». منذ سنتين والمنطقة العربية تهمل اقتصادها لتدافع عن موقعها السياسي الذي وضعت فيه نتيجة اعتداء 11/9/2001م على الولايات المتحدة. منذ سنتين والمنطقة العربية تغض النظر عن الكثير من الاجحاف الاعلامي والاقتصادي بحقها تجنبا لانعكاسات سلبية على مواطنيها وعلى مستقبلها. فنتيجة أجواء القلق والخوف على المستقبل تدنى نمو استهلاك الفرد العربي من 8 ،4% في سنة 2001م الى 8 ،1% في سنة 2002 والى نسبة متوقعة قدرها 1% لهذه السنة. من الصعب ان يتعافى الاستهلاك العربي قبل أن يستتب الاستقرار السياسي والأمني. وبالرغم من ان الدخل الضرائبي الغربي من استهلاك النفط ومشتقاته يتعدى الدخل النفطي لمجموعة الدول المصدرة للنفط «أوبيك»، ها هي الدول المصدرة تتهم كل مرة بتسبب التضخم في الغرب عندما يرتفع سعر برميل النفط. معدل الدخل الضرائبي من النفط في الدول الصناعية السبع الكبرى يبلغ حوالي 270 مليار دولار سنوياً، بينما لا يتعدى الدخل النفطي السنوي لمجموعة أوبيك 170 مليار دولار. محاربة التضخم في الدول الغربية يتم أولا عبر تخفيض الضرائب على استهلاك النفط وثانيا عبر تخفيض الطلب عليه وأخيرا عبر اقناع الدول المصدرة بزيادة انتاجها.
ما يجري في العراق وفلسطين يعكر حتما الأجواء العامة ويؤثر مباشرة وسلبا على مستوى ومحتوى الاستهلاك. كما يؤثر على نوعية الانفاق العام الذي يذهب أكثر فأكثر الى الشق الجاري وبعيدا عن الاستثمارات المؤثرة على الانتاجية والنمو. الموازنات العربية عاجزة في معظمها، إذ بلغ معدل نسبة العجز السنوي من الناتج المحلي الاجمالي 2 ،1% في فترة 1991-2000 ونسبتي 8 ،0% و3% تباعا لكل من سنتي 2001 و2002. بالرغم من توقع بقاء سعر النفط في مستويات مرتفعة نسبيا أي حوالي 30 دولاراً للبرميل، من المرجح ان يستمر العجز المالي العربي في حدود 5 ،2% لكل من السنوات الثلاثة القادمة. بالرغم من الجهود الكبيرة المبذولة لتنويع الاقتصاد العربي، إلا أنه ما زال يرتكز على انتاج النفط ومشتقاته. لذا يجب وضع رؤية اقليمية شاملة ترتكز على بناء اقتصاديات وطنية منتجة وعلى فتح الأسواق وتكاملها لاعادة أجواء التفاؤل الى المستهلكين العرب. رفع الانتاجية يؤدي الى زيادة النمو وبالتالي مستوى الرفاهة الاجتماعية.
يرتكز رفع انتاجية أي اقتصاد وطني على تحقيق الأمور التالية مجتمعة:
أولاً: تعديل السياسة المالية، أي الانتقال من عجز في الموازنات الى فائض عبر ترشيد الانفاق ووقف الهدر وزيادة العائدات الضرائبية وتنويعها. في وجود فائض مال يزداد حجم التوفير العام وتنخفض الفوائد ويسدد الدين العام ويسهل تمويل الاستثمارات من الداخل. فالفائض مرغوب به ليس لانفاقه، بل لتحسين التوازن الاقتصادي الداخلي العام. تعديل السياسة المالية يساهم في تعزيز دور القطاع الخاص في الاقتصاد وفي مساهمته أكثر في رفع الانتاجية والنمو. عجز الموازنات العربية في حدود 3% من الناتج ليس ضخما ويمكن القضاء عليه عندما تتغير عقلية الانفاق وتصبح رشيدة. المعالجة الفضلى لموضوع العجز تبقى عبر دراسة أسبابه في كل دولة، إذ لكل منها أوضاعها الخاصة. فلبنان هو النموذج الأفضل لأوضاع مالية متردية بفضل سوء الأداء العام الذي أدخل الوضع المالي في حلقة سلبية مفرغة يصعب كسرها. الانتقال من أوضاع مالية سلبية الى ايجابية يتطلب الاداراك من قبل المسؤولين عنها وثم الاهتمام، وأخيراً تنفيذ السياسات التي تتطلب تضحيات كبيرة من الدولة والناس. كلما تأخر تنفيذ الحلول المالية المعروفة، كلما أصبحت التكلفة أعلى والتضحيات أكبر على الجميع.
ثانياً: الاصلاحات الضرائبية التي تنوع الايرادات وتطور الجباية دون ان ترهق المواطن والشركات. المطلوب تنفيذ تعديلات ضرائبية تفيد الانتاجية وتطور الاقتصاد. من الأمثلة المعروفة اعفاء الاستثمارات الجديدة من الضرائب وخصوصا الضريبة على الدخل للسنوات الخمس المقبلة على الأقل. التركيز أكثر على الضريبة على المبيعات بدل الضريبة على الدخل لتشجيع التوفير المفيد للاستثمارات. ابقاء الفوائد على الودائع المصرفية أو على قسم منها من دون ضريبة تشجيعا للتوفير. لكل دولة عربية أوضاعها ولكنها تحتاج جميعها الى اعادة نظر في هيكلية الضرائب لديها من ناحيتي الفعالية والعدالة بحيث لا يدفع الفقير وحده الضريبة ويعفى منها الميسور أو النافذ. لم تنجح أية دولة غربية في تنظيم ضرائبها قبل ان تنفذ بعض التحديث الاداري العام. من هنا ضرورة الاهتمام بالأوضاع الادارية العربية والمباشرة بالاصلاح تزامنا مع التعديلات الضرائبية المقترحة.
ثالثاً: تطوير التعليم بكل درجاته إذ يبقى مستوى ونوعية التعليم من أهم مصادر رفع الانتاجية والقطاعية والعامة. التعليم الجيد يخلق يداً عاملة مثقفة ونشطة وواعية ومنتجة، وبالتالي ينتج اقتصاداً مماثلاً لها. هنا لابد من مقارنة النمو الاقتصادي الأوروبي بالأمريكي وربطه مباشرة بالتعليم. فبين سنتي 1986 و1990، نمت انتاجية العامل الصناعي حوالي 3 ،2% سنويا في الولايات المتحدة و3% في أوروبا الواحدة. إلا ان المعادلة انقلبت من ذلك التاريخ، وأصبح النمو الانتاجي الأمريكي أعلى. فبين سنتي 1991 و2000، زادت انتاجية العامل الصناعي الأمريكي 3 ،4% سنويا مقابل 1 ،3% لزميله الأوروبي، فكيف يفسر هذا التغيير؟ من الطبيعي القول ان مرونة أسواق العمل وسهولة تأسيس الشركات هي أفضل بكثير في أمريكا، إلا ان العامل الأهم يكمن في التعليم. ففي أمريكا يرتكز التعليم المدرسي والجامعي الأولي والتدريب على «العام» أكثر منه على المتخصص، بينما تركز أوروبا على التخصص منذ المدرسة. فبسبب التطور التكنولوجي الهائل الذي حصل في العقد الأخير، استطاع الأمريكي التأقلم معه واستيعابه بسرعة وفعالية أكبر. من هنا ضرورة تطوير التعليم في الدول العربية، علما ان لكل دولة مشاكلها وأوضاعها الخاصة. المهم هو تزويد الطالب باللغات والعلوم التي تسمح له باستيعاب التكنولوجيا بسرعة وتطبيقها في الأعمال رفعا للانتاجية.
رابعاً: تحرير الاقتصاديات تشجيعا للمنافسة المخفضة للأسعار والتي تسعى لارضاء المستهلك. التحرير ضروري جدا في القطاعات التي تربط الاقتصاديات بعضها ببعض، أي الاتصالات والطيران والنقل بمختلف أقسامه. احترام حقوق المواطن والمستهلك هو قلب الاقتصاد الحديث المنتج، وتدخل ضمنه مجموعة القوانين التي تحفظ البيئة والسلامة في العمل. هنا تكمن أهمية وضع قوانين حديثة مشجعة لممارسة الأخلاق في الأعمال ومعاقبة المخلين بها بصرامة. فالفضائح الكبيرة التي عرفتها أسواق الأعمال الدولية كانت مفاجئة للجميع وضربت ثقة المستثمر بالشركات والأسواق المالية الوطنية والدولية. ها هي أمريكا، وبعدها أوروبا، تتخبط في تنظيم رقابة وقائية جديدة تخفف من امكانية حصول هذه الأمور. من المؤكد ان تصرفات مماثلة موجودة في العالم العربي ولكنها لا تصل الى الاعلام لأن ثقافة الشفافية لم تنتشر بعد في عالمنا. فكيف يمكن بناء اقتصاد حديث منتج مع وجود فاسدين يديرون بعض الشركات والأسواق؟ الوقاية تفرض على الدول العربية نص تشريعات جديدة تحمي الأخلاق وتحفظ حقوق المستهلك.
بناء اقتصاد حديث منتج ليس بالأمر السهل، إلا أنه ممكن وضروري. الأوضاع الاقليمية الحالية لا تشجع على الاصلاح، إلا ان الليل لابد وأن ينجلي ويصبح ما نبنيه اليوم بغاية الأهمية للنهوض الاقتصادي القوي والسريع.
www.louishobeika.com |