تناقلت الصحف المصرية أخيراً خبر تخصيص الإدارة الأمريكية ما لا يقل عن مليون دولار معونة لمركز ابن خلدون بالقاهرة الذي أسسه الدكتور سعد الدين إبراهيم أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية بالقاهرة والذي يحمل الجنسية الأمريكية اضافة إلى جنسيته المصرية.. وتعجّب بعض الكتّاب من هذا التخصيص في إطار المعونة الأمريكية لمصر.. حتى صدر توضيح من السفارة المصرية في واشنطن يعلن أن هذه المعونة الأمريكية لهذا المركز «الخاص» ليست خصماً من المعونة الأمريكية لمصر.. بل هي زيادة عليها!
وأيَّا كان الأمر.. فإن التساؤل سيبقى قائماً: لماذا تقدم أمريكا هذه المعونة لهذا المركز خاصة.. إلا إذا كان هذا المركز قائماً بمهمة ترضاها أمريكا وتحقق هدفاً من أهدافها في المنطقة.
فإذا علمنا أن هذا المركز قد أغلق قبل عدة أعوام بأمر السلطات المختصة في مصر وأن صاحبه كان في السجن حتى عهد قريب.. وأن السفير الأمريكي بالقاهرة كان يزوره في سجنه.. ثم أطلق سراحه بعد إعادة محاكمته منذ بضعة أشهر.. تبين لنا أن هذا المركز ليس مجرد معهد بحثي في مجالات العلم المختلفة.. بل إن له أهدافاً بعضها معلن والآخر في طي الكتمان.
ومنذ بضع سنوات كلف هذا المركز أستاذاً للتاريخ الإسلامي «مفصولاً من جامعة الأزهر بسبب آرائه الجامحة» بإعداد كتاب مقترح لمادة التربية الدينية للمدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية بمصر.. وهذا الكتاب المقترح ينكر الشفاعة العظمى لنبينا صلى الله عليه وسلم ويزعم أنها منافية للعدل الإلهي.. وقد بيَّن مؤلف هذا المنهج في رده على من انتقدوا كتابه بقوله: «إن منهجنا يقوم على استخلاص حقائق الإسلام من القرآن وحده الذي لا ريب فيه حتى لا يقال: هذا حديث صحيح أو ضعيف!».
وهكذا تكشفت أهداف هذا المركز الذي يسمى «مركز ابن خلدون للتنمية» فإذا هو يجمع طائفة ممن لهم موقف معين من الإسلام.. وإذا هم يرددون مزاعم المستشرقين في التشكيك في حجيّة السنة وصحة تدوينها ويغفلون هذا الجهد العظيم الذي بذله علماء الإسلام في التحري والضبط وتمييز الأسانيد وتصحيح ما يستحق الصحة وتضعيف ما يستحق التضعيف، مما لم تقم به أمة تجاه كلام نبيها.
وإن الزعم بالاكتفاء بالقرآن وإهمال السنة باب خطير من أبواب الانحراف عن الدين حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم فيما صحّ منه من حديث كقوله: «ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه» بل إن القرآن يدل على وجوب اتباع السنة في مثل قوله سبحانه:{يّا أّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا أّطٌيعٍوا اللَّهّ وأّطٌيعٍوا الرَّسٍولّ} فكيف تتأتى طاعة الرسول مع إهمال ما صح عنه من أمر ونهي؟!
لقد كان باستطاعة الإدارة الأمريكية أن تجعل مساعدتها لمركز ابن خلدون للتنمية بالقاهرة الذي أسسه الدكتور سعدالدين إبراهيم المصري الأمريكي المتزوج بأمريكية - أن تجعلها سراً في الخفاء .. فلماذا حرصت على إعلانها رسمياً والنص عليها وتحديد قيمتها بما لا يقل عن مليون دولار - وقد يزيد ؟!
لعل ذلك لإضفاء الحماية على هذا المركز واعتباره ضمن المصالح الأمريكية في المنطقة حتى لا تفكر الحكومة المصرية في إغلاقه مرة أخرى، بعد أن ثبت لها أنه يقوم بأنشطة ضارة معادية لسياستها، مثل إثارة فضية الطائفية في مصر والزعم بأن الاقباط لا ينالون حقوقهم كاملة، ومثل رفع شعار الديمقراطية ومحاربة التزييف في الانتخابات.
والحقيقة أن مؤسس هذا المركز ومديره الدكتور سعد الدين إبراهيم لا يخفي وجهه ولا يستر توجهه.. فهو يدعو في كل مشاركاته في المحطات الفضائية إلى ما يسميه الحرية المطلقة.. إلى حد أن قال أخيراً - فيما شاهدته له - إن الشعب إذا أراد تغيير أحكام المعاملات الإسلامية بأحكام أخرى وضعية فهذا من حقه ولا حرج عليه.. وقد تفضل الرجل بالإقرار بأن أركان الإسلام الخمسة لا يجوز الاجتهاد فيها بل تبقى كما هي.. أما المعاملات كلها بما فيها أحكام الأسرة كتعدد الزوجات والميراث وغيرها فهي قابلة للتغيير على أساس رأي الأغلبية!
ولا شك أن هذا التوجّه يدلّ على المقصد الحقيقي لمركز ابن خلدون.. فإن أمريكا لا تستطيع أن تغير الواقع الاجتماعي والثقافي في البلاد العربية والإسلامية بمفردها بل هي محتاجة الى «مراكز» وهيئات تمهد لها وتحقق أهدافها تحت شعار «التنمية» والبحث العلمي ونحو ذلك.
ولو أنك سألت صاحب هذا المركز: هل يؤمن حقا بالحرية المطلقة.. أو هل تؤمن الإدارة الأمريكية نفسها بهذا الحق للشعوب جميعا؟ فإنك ستجد التواء في الجواب وجنوحاً الى التعمية والتجهيل.
وقد أعجبني ما ردّ به أستاذ جامعي مغربي على دعوى صاحب مركز ابن خلدون حين قال له: لو كان الأمر مستنداً حقا الى رأي الأغلبية فإني أتحدى هؤلاء الذين يريدون تغيير الأحكام الشرعية في قضايا الأسرة أن يطرحوا الأمر في استفتاء حر على الشعوب العربية والإسلامية .. فلن يجدوا شعباً واحداً يقبل تغيير أحكام الشريعة واستبدال القوانين الوضعية بها.. هذا إذا كان الاستفتاء حُراً حقاً وديمقراطياً نزيهاً!
وإذا كان هو - ومن يقدمون له المعونة - يؤمنون بإرادة الشعوب وحريتها فأين إرادة شعب فلسطين وأين حريته وأين حقه في وطنه وأين حظه من الكرامة والإنسانية؟! ولماذا يعلن هؤلاء الأحرار الديمقراطيون جداً «!» أنهم لا بد أن ينتصروا في «حرب الأفكار» بعد أن انتصروا في حرب السلاح.. ومتى كانت الأفكار تفرض بالصواريخ والقنابل؟! منتهى التناقض ومنتهى الاستفزاز!
|