فإذا خرج المولود للحياة، وابتهج به الوالدان والأسرة، وتوالت التهاني من الأقارب والأصدقاء، يأتي دور آخر من أدوار الاهتمام والمحافظة على الأولاد.. حيث يلزم الوالدين خلاله حسن التوجيه للأولاد، وتركيز الرعاية، ليبدأ مخاطبة العقول في هذا الدور التعليمي، بما فيه نفع ومصلحة الأولاد، حتى يكونوا منتفعين في أنفسهم، ونافعين لغيرهم، ومن هذا النفع يعود الأثر على الأمة بأسرها.. ولا ننسى حسن اختيار الاسم للمولود:
- يقول صلى الله عليه وسلم «إن كل مولوديولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه».
وهذا يدل على الدور الكبير، الملقى على الوالدين، منذ تفتح عيون وعقول الأولاد على الحياة، لأنهم يأخذون التعليم والتوجيه تلقيناً من الأبوين أولاً، مثلما يتعلمون المحادثة وكيفية النطق، بالمحاكاة والتقليد والتلقين..
ولسيطرة الأبوين، وقوّة تأثيرهما على الولد، كان الدور كبيراً والتأثير بليغاً في التلقي والإعجاب بالوالدين، وأحياناً خوفاً من عقابهما، سواء بالضرب أو الزجر، لذا كان الطفل عندما يبدأ يدرك، ينظر إلى قسمات وجه أحد الأبوين في الأمر الذي يريد مدِّ يده إليه، أو يخطو نحوه، فإن رأى منهما أو أحدهما تجهماً أحجم، حتى لو لم يبدأ في النطق، وإنما رأى التبسم أو بشاشة الوجه استمرأ ذلك العمل، وإن كان سيئاً ليكبر معه بحسب نموّ جسمه وعقله.. فلا يجب أن يغرب عن أذهان الأبوين، دور العناية بالتوجيه والتعليم في جميع مراحل النمو عند المولود..
ولذا يقال في الحكمة العلم في الصغر كالنقش في الحجر وهكذا بعدما يكبر عندما يلتفَّ على أصحاب سوء، فإنه يكون مثلهم لعدم منعهم.
- وإذا كانت التوجيهات للمربين والمربيات في المدارس، وللآباء والأمهات في بلاد الغرب، بأن تعطى الثقة للطفل منذ حداثة سنه، ليعبر عما يريد، ويجاب عن كل سؤال يطرحه بوضوح وصراحة، وعدم الكذب عليه، ومحاسبته إذا كذب هو، وبيان أثر الكذب، فإن ديننا الإسلام، قد سبقهم إلى هذا المجال، وليس بحجة عندما نرى بعض الآباء والأمهات، في بعض المجتمعات الإسلامية، لم يتقيدوا بالمنهج النبوي في تعليم الأمة، فالعيب فيهم، ويجب صلاحه، وتوجيههم للدرب الصحيح، الذي يعطي نتائج مرضية، وتأثيراً مريحاً..
ألم يقل صلى الله عليه وسلم لامرأة تنادي صبياً: تعال أعطيك، فسألها عليه الصلاة والسلام، عما تعطينه؟ قالت: تمرة.
فقال صلى الله عليه وسلم: «أما إنك لو لم تعطيه شيئاً لكُتِبت عليك كذبة».
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الكذب على الحيوانات، وما ذلك إلا أن لديها شعوراً، فما بالك بالإنسان الذي وهبه الله العقل، وكلّفه بالشرائع، فكان مطالباً بحسن العمل، وعدم الإفساد في الأرض، لأن الله لا يحب الفساد ولا يرضى عن عمل المفسدين.
- ومن هدي رسول الله للأمة: بعد ولادة الأبناء: أن يؤذّن في أذنه، حتى يكون أول ما يستقر في ذاكرته الطرية التي لم يدخلها شيء، كلمات الأذان بعظمة الله سبحانه، وبالشهادتين اللتين هما قوام الدين، لأن ذاكرته كالإناء التاريخ يتأثر بكل ما يوضع فيه من إساءة او حُسْن، أو قبح وطيب.. فشرع لنا إحسان ما يستقر أثره في هذا الإناء.
- وفي سابعه يسمى ويحسن الأبوان تسميته، ويحلق شعر رأسه، ويُتصدق بوزنه من الفضة على الفقراء، وهذا يعني الشكر لله على نعمة المولود، والنعم بالشكر تدوم، ومن دوام الشكر: الحرص على تنشئة هذا المولود، والعناية بتربيته على أحسن الخصال، التي في مقدمتها ما يرتبط بالله عبادة، وأهم ذلك الصلاة التي هي صلة بين العبد وربّه.
- حيث بعد تفتح ذهن المولود، وإدراكه لما حوله، وتأثره بالتربية والتعويد على العبادات مع الله، حيث يرى والديه يؤديان ذلك عملياً، فيبدأ في محاكاتهما، فإنه تبدأ مداركه في التوسع، بأخذ التعليم والنظرة للحياة والمجتمع من زاويته الخاصة، وهي الأبوان: محاكاة وتقليداً، وتوجيهاً منهما للحسن من أجل حسنه وثياب عليه بالقول وبالفعل، كالهدايا المقرونة بذلك العمل، ومعاقبة من أجل تصرفه غير المستحسن، ليجازى عليه بالتنبيه أؤ الضرب الرادع، وبحرمانه من أشياء يحبها، مقروناً ذلك الحرمان، بما يوضح له الخطأ.
وما ذلك إلا لدورهما الكبير عند الأولاد، وربطهما التأثير بما هو محسوس عنده، فالطيب لحسنه، ورغبتهما فيه، والسيىء لقبحه وبغضهما له.. فينشأ على ما عوّده أبوه عليه.
- وبعد ما يكبر عقل المولود، وينمو إدراكه: ذكراً كان أو أنثى، تتسع دائرة الوعي عنده، حيث يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الآباء والأمهات بقوله الكريم: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع»، فالصلاة مع أنها من أفضل العبادات، وصلة بين الخلق وخالقهم، فإنها تربية للروح والجسد، الجسد من أجل نشاطه وصحته، والروح من أجل تزكية النفس، وتوطينها على الأعمال الحسنة، حيث أبان سبحانه عن مكانة الصلاة بأنها «تنهى عن الفحشاء والمنكر».
ولذا تجد الأشرار والمجرمين، لا يقيمون وزناً، لأن من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فليس لله حاجة، في أن يدع بقية أعماله، فإذا عوّد الآباء أبناءهم، على الصلاة التي هي تزكية للنفس، ورابطة قوية مع العبادات، تجعل من أحبَّها أن قلبه متعلق بمحاسنها: طهارة في القلب، وتآلفاً بين أبناء الحي، وشعوراً بالمودّة والأخوة..
فيدرك الشابّ الذي كبر جسمه وعقله، من حرص والده الذي يأمره برفق، ويعلمه ما يجب عليه، في مهمته في الحياة، حيث لم يخلق للعبث واللهو، وإنما خلق لأداء حق الله في العبادة، وحقّ عباد الله في التعامل والمودة يقول سبحانه في سورة الذاريات:{ومّا خّلّقًتٍ الجٌنَّ والإنسّ إلاَّ لٌيّعًبٍدٍونٌ مّا أٍرٌيدٍ مٌنًهٍم مٌَن رٌَزًقُ ومّا أٍرٌيدٍ أّن يٍطًعٌمٍونٌ إنَّ اللَّهّ هٍوّ الرَّزَّاقٍ ذٍو القٍوَّةٌ المّتٌينٍ} [الذاريات: 56 - 58] .
وفي خلال السنوات الثلاث، ما بين السبع إلى العشر، كان التوجيه الكريم، لولاة أمور الأولاد، أن تكون الأوامر، بأداء هذه العبادة، بدون تشديد، لكن بالمتابعة وحسن التوجيه، حتى يتعود على أداء هذه الشعيرة، ولكي يرتبط بها قلبه، محبّة واستئناساً، لأنّ من أحبّ شيئاً داوم عليه.
ثم بعد هذه الفترة التمرينية، إن استقام وداوم، فالحمد لله، وهذا ما يرجى من التربية الحسنة، أما إذا بدر منه التراخي، فيكون تعليمه، بما هو أشدّ: عقاباً يشعر معه بالألم والوخز، حيث للضرب دور في تغيير الطباع، وجذبه إلى الاستقامة، وقرن الضرب بالتفريق بين الذكور والإناث في المضاجع تجنباً لما لا تحمد عقباه.
أبرهة وهزيمته
لما جاء أبرهة قاصداً هدم الكعبة، ليصرف الناس عنها إلى معبد بناه في اليمن، جاء في كتاب محاضرة الأبرار: ما يلي استأذن عبدالمطلب على أبرهة، فأذن له، فلما رآه أجله وأكرمه عن أن يجلس تحته، وكره أن تراه الأحباش على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره وجلس بجانب عبدالمطلب على بساطه، ثم قال لترجمانه: قل له ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن يردّ عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي، فأمر ترجمانه أن يقول له: كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني في مائتي بعير أصبتها لك؟. وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك، وقد جئت لهدمه لاتكلمني فيه.
فقال عبدالمطلب: إن هذه الإبل لي وأنا ربّها، وإن للبيت رباً سيمنعه. فقال: ما كان ليمنع مني. قال: أنت وذاك.
قال ابن اسحاق: وقد كان ذهب مع عبدالمطلب أشراف القبائل، إلى أبرهة فعرضوا عليه ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت فأبى، فعاد عبدالمطلب وأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرز في شعب الجبال تخوّفاً من مضرة الجيش، فقام وأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام نفر من قريش معه يدعون، ويستنصرون على أبرهة وجنوده.
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله محمود، وجاء مع جيشه ليهدم الكعبة ثم الانصراف لليمن، فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب نحو الفيل، ثم أخذ بأذنه فقال: يا محمود أبرك وارجع راشداً من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك الفيل، وضربوه ليقوم، فضربوه في رأسه بالطبرزين فأبى، فأدخلوا محاجن في مراقه فنزعوه بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعاً لليمن فقام يهرول، ووجهوه نحو الشام ففعل مثل ذلك، وإلى الشرق ففعل، وإلى مكة فبرك، فأرسل الله عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران برجليه، أمثال الحمص والعدس، ولا يصيب منها أحد إلا هلك، وليس كلهم أصابتهم، فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق إلى اليمن (محاضرات الأبرار ومسامرة الأخيار لابن عربي): 253 - 254.
|