* بغداد - د. حميد عبد الله:
ارتبط شارع (أبو نواس) في بغداد بالبذخ واللهو والمجون وبالسمك المسقوف أيضا، ولم يخيل لأحد من رواد الشارع العريق أن تتحول (باراته) الشهيرة إلى مطاعم من الدرجة الثالثة أو محال لبيع العصير اثر قرار أصدره صدام حسين عام 1994 حظر بموجبه تناول الكحول في البارات ولكنه سمح ببيعها علانية في الأسواق وفي جميع أيام الأسبوع عدا يوم الجمعة، ولم يفهم العراقيون حتى الآن دوافع ذلك القرار وما إذا كانت تلك الدوافع دينية أم اجتماعية أم بمشورة من عزت الدوري الذي كان يشرف على الشؤون الدينية في العراق فيحلل الحرام ويحرم الحلال.لقد اصدر النظام السابق حكم الإعدام على شارع هو من أهم وأعرق شوارع بغداد، وتحول (أبو نواس) طيلة عقد التسعينات إلى شارع مشلول الحركة نهارا وشبه مهجور ليلا ، وتحولت بعض البارات إلى علب ليلية ومواخير للدعارة أمام أعين السلطات التي تقوم بشن حملات على تلك الأماكن تنتهي عادة بشراء ذمم رجال الشرطة الذين ينسحبون بعد أن يملأ كل منهم جيبه ويفرغ شحناته الجنسية مع (بائعات الهوى) ثمناً للسكوت.
وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق تقطعت أوصال شارع ( أبو نواس) ولم يعد بإمكان أحد أن يقطعه بدءاً من جسر الجمهورية وانتهاء بجسر الجادرية، فالأسلاك الشائكة والحواجز الكونكريتية حولت الشارع إلى أشبه بجسد تقطعت أجزاؤه إربا إربا، والانكى أن المهووسين بموجة التغيير لم يرق لهم اسم ابي نواس فغيَّروا اسم الشارع ليطلقوا عليه تسميتين، حيث حمل القسم الشمالي منه تسمية (سفينة النجاة) وهو الوصف الذي يطلق على الإمام الحسين عليه السلام أما القسم الجنوبي فحمل اسم (المنتظر) والدلالة واضحة ولكم أن تتصوروا حجم المفارقة بشقيها الكوميدي والتراجيدي...
شارع الممنوعات
ورغم أن ضفة النهر من جهة الكرخ قد تحررت من إرهاب القصور الرئاسية والدوائر الامنية المقامة على الضفة الأخرى، إلا إن الشارع لم يستعد حريته بعد. فمقر الأمم المتحدة المطل على الشارع تحول بعد، التفجيرات المريعة التي حدثت إلى مستعمرة اضطرارية للشارع بحيطان خرسانية عالية واسلاك شائكة تلتف كنبات ميت في كل مكان.الوضع نفسه يتكرر أمام فندق الشيراتون.. في منتصف الشارع.. وكذلك عند بناية الاتصالات التي اتخذتها وحدة عسكرية أمريكية مقراً لها. هذا إضافة إلى نقاط السيطرة التي تقام فجأةً وفي أي وقت، او قطع الشارع بحواجز لعدت أيام، حتى غدا من الطبيعي أن سائق سيارة الأجرة لا يفكر مطلقاً بالمرور في الشارع، بل إن أي شخص لا يجد في نفسه الرغبة للمرور ولو حتى من اجل مشاهدة النهر.المشكلة تأخذ بعدها الأكثر حضورا حين تشاهد المحال والمطاعم والكازينوهات المطلة على الشارع مغلقة. السيد عبد الكريم رحيمة محمد صاحب مطعم (شحم ولحم) كان جالساً أمام محله المغلق سألناه فأجاب بأنه منذ الشهر الثالث لم يفتح مطعمه لعدم وجود زبائن ولا سيما بعد التفجير الإجرامي لمقر الأمم المتحدة، فقد انقطعت نهائيا أي (رجل) من الدخول إلى المطعم وهو لا يعرف متى سينتهي هذا الوضع وخصوصا انه لا يملك مصدراً آخر للرزق ويعيل عائلة من 12 فرداً وأضاف: كان لدينا مخبز ونزود فندق السفير بالخبز، كان لدي ستة عمال وهذا يعني ست عوائل.. الآن غادروا لأن إعطاءهم أجور عمل لم يعد ممكنا.
أما صاحب مقهى (الفريد) فقد أشار بيده إلى المقاعد الفارغة وقال: هذا حالنا كل يوم، ولكني لا املك مصدر رزق آخر لذا افتح المقهى كل يوم على الرغم من يأسي من تغيير الحال.. لقد قابلنا الكابتن جنكس آمر الوحدة العسكرية الامريكية التي تتخذ مبنى وزارة النقل والمواصلات السابقة مقرا لها.. فقال لنا ان هذا القطع في الشارع سيستمر طويلا.. وأنا الآن أفكر بايجاري السنوي (مليون و800 ألف) دينار ولا اعرف كيف اسدده مع كساد الشارع وموت الحياة فيه. مد السيد ناصر الكرخي صاحب مطعم اسماك الوسام يده في حوض كبير وحرك الماء دلالة على عدم وجود الأسماك فيه، وقال لنا : في الشارع نحو (26) مطعما تقدم السمك (المسقوف) وخمسة كازينوهات تطل على النهر كلها مغلقة الآن. وأنا اعمل هذا الشارع منذ سبع وعشرين سنة ولم اشهد أبدا حالا مثل هذا. ففي السبعينيات كان يسمى من يبيع السمك في شارع (أبو نواس) ب(اللورد) والآن نعاني من الكساد.
|