تلويحة وفاء
كان بودي أن أكتب في حينه عن فاجعة فقد المفكر إدوارد سعيد. ولكن يبدو أن تكالب الفواجع الداخلية والخارجية قد أذهلني عن واجب الوفاء خاصة أنني لم أرد أن تكون كتابتي عنه مرثية عاطفية بل كنت أطمح في كتابة تليق ولو قليلاً بقامة أطروحته النقدية إذ إن أطروحته النقدية للاستشراق قد شغلت حيزا في عقلي وبحثي، وفي عقول عدد لا يحصى من الدارسين والعاملين في حقل العلوم الإنسانية في العالم أجمع. فلقد عملت أطروحة إدوارد سعيد وجدله العلمي على عقلنة شحنة الغضب الشبابي الذي كان عدد منا يشعر به من عدم عدالة الأوضاع الدولية وخاصة كأوضاع أمتنا ومهانتها، ولا يعرف كيف يعبر عنها بغير أن يقع في غرام الغريم أو يجنح إلى الاحتراب الملحق لكلا الطرفين. أما وقد وصلني عبر البريد الإلكتروني مقال موزون يتناول تلك الأطروحة النقدية العملاقة باختصار مكثف وعميق دون أن يخل بأي من مفاهيمها وبنيتها الأساسية، فقد رأيت أن أقوم بترجمته فهو لمحة موضوعية ونزيهة عن فكر مفكر التزم بالموضوعية وشرف الكلمة.
ترجمة المقال
إدوارد سعيد 1935 2003م.
ربما كان إدوارد سعيد واحداً من أكثر المفكرين والمثقفين تأثيراً وإثارة في وقتنا الحاضر لهذه الحقبة التاريخية من الربع الأخير للقرن العشرين ومطلع القرن الميلادي الحالي ممن خرجوا من أرضية العالم الإسلامي. جاء إدوارد سعيد من تلك الأرضية إلى العالم ليسجل حضورا فكريا متميزاً ومخالفا لعادة وجود المغتربين في غير أوطانهم أو في أوطانهم الجديدة التي غالبا ما تتسم بالتسليم للسائد المعرفي والسياسي. خلفيته كانت فلسطينية، مسيحية، «متفرنجة» وميسورة على أن إنتاجه العلمي والفكري تمرد تمردا إيجابيا، وتفوق في الوقت نفسه على شروط الواقع الذي عاشه. فبدل أن يقبل بأن يكون أحد المعتذرين الكثر عن الإمبريالية، وبدل أن يقبل بأن يكون أحد الكارهين أو الساخطين على أنفسهم كموضوع أو ضحية أخرى من ضحايا الاحتلال أو الاغتراب بمعناه الجغرافي والسياسي والثقافي اختار إدوارد سعيد خيانة إرث الخنوع المعرفي والسياسي لسلطة الهيمنة والسيطرة والقوة بأشكالها السافرة المتمثلة في الاحتلال وبأشكالها المقنعة أو الملتبسة المتمثلة في الإمبريالية إدوارد سعيد انتقد العلاقة بين المعرفة الغربية وبين القوة (السيطرة السياسية)، وقد قام بتفنيد وتعرية أن ما رأته الحضارة والثقافة الغربية في بقية العالم كان مجرد انعكاس لتخيلاتها الخاصة عن هذا العالم أو قلقها منه وتوقها إلى السيطرة عليه. مما نتج عنه فشلها المستمر إلى هذه اللحظة في أن ترى هذا العالم (بقية العالم غير الغربي) خارج تصورها الذاتي له وليس كما هو في واقعه وفي وعائه التاريخي والحضاري. وفي كتابه النموذجي الذي يعتبر «ماستر بيس» المعنون (Orientalism) (الاستشراق)، ناقش وجادل بروفسور سعيد بأنه قد جرى توظيف وتوريط المعرفة الغربية (Western Knolewdge) في مشروع الامبريالية الغربية كمشروع للسيطرة وفرض الهيمنة الغربية على العالم. ولم يكن ذلك يتم ببساطة فقط من خلال توظيف أو استخدام تفاصيل السيرة والمعلومات التجسسية التي قام بجمعها الاستخباريون والمبشرون وغيرهم من موظفي الاحتلال ممن صار لعدد منهم كراسي اكاديمية في الجامعات الغربية يقومون فيها على تدريس علم السلالات الإنسانية (Anthropology) وعلوم انسانية واجتماعية أخرى ولكن أيضا كان ذلك يتم على مستوى مفاهيمي (Conceptual) بحيث تعطي المعرفة الغربية شرعية لسلطة الغرب وتسلطه على المناطق التي امتدت إليها هيمنته التي يحلم أو يخطط إلى فرض وجوده عليها. ونستطيع أن نرى في حالة الاحتلال الأمريكي للعراق حالة نموذجية طازجة لما تحدث عنه إدوارد سعيد في أطروحته عن الاستشراق من خلال الطريقة التي أسقط فيها الاحتلال الأمريكي (تخيلاته وأمانيه وقلقه) بما يشكل «معرفة أو تصوراً غربياً صرفاً» على العراق وشعب العراق ليبرر عودة الاستعمار لاحتلال بلد بأكمله، ويظهر ذلك الاسقاط «التخيلي» جليا سواء في الإصرار على التصوير الأسطوري لحيازة العراق على أسلحة الدمار الشامل (مما يبدو واضحا أن ليس لها من وجود في غير مخيلة المستعمر ومعلوماته الاستخبارية المخلة) أو سواء في تخيله أو بالأحرى توهمه وهذا أيضاً (تصور معرفي غربي مغرق في الذاتية وتجاهل الغير) بأن شعب العراق سيستقبل الغزاة من جنود الاحتلال بالورود والامتنان. وعبقرية إدوارد سعيد أنه استطاع أن يعبر بتحليله للعلاقة بين المعرفة الغربية وبين التسلط الامبريالي ما كان وما لا يزال يعتمل في نفوس العديد من المنتمين للعالم الإسلامي ولكنهم كانوا يجدون صعوبة في التعبير عنه بمثل هذا الأسلوب العلمي الذي عبر عنه بعلمية وبشجاعة، ولن يُذكر إدوارد سعيد فقط لأنه رفض الاحتواء الصريح للفرض العنصري الذي بواسطته أنتج الغرب معرفته المتحيزة ضد الآخر، ولكنه سيُذكر دائما لجرأته التي لم تلين أو تهن لآخر يوم في حياته. فهو دافع عن حقوق الشعب الفلسطيني وبصوت عالٍ في واحدة من أشد بلدان العالم عداء للقضية الفلسطينية في عقر الدار الأمريكية، ولقد اتهم بسبب موقفه النضالي الشريف، هذا من قبل الصهيونية بالإرهاب (ولكن من هو غير متهم بالإرهاب هذه الأيام حيث يصعب أن تكون صاحب فكر أو تفكير مستقل دون أن تكون عرضة لتهمة الإرهاب أو دون أن تصنف على أنك إرهابي). ولقد كوفئ وقوفه بجانب الحق الوطني الفلسطيني من قبل ياسر عرفات بمنع كتبه من الدخول أو التداول في الضفة الغربية وغزة عندما اتضح بأن سعيد ناقد صارم ومعاد عنيد لما يسمى بعملية تسوية أوسلو غير العادلة، وكان نقده الصارم رغم موضوعيته للمشروع الفكري الغربي قد تسبب في فتح عدد من جبهات العداء له من قبل الحراس القدامى والجدد من محافظي اليمين المتعصب من الذين لم يترددوا في محاربته والطعن في أطروحته النقدية للفكر الغربي وإن كانوا لم يبذلوا أي جهد يذكر لقراءة وفهم أطروحته النقدية وجدله فيها ولها.
ومع كل ذلك بقي أن نقول: إن إدوارد سعيد حتى وإن لم يعن إلا فيما ندر بالاندلاع الكوني لصحوة الإسلام المستنيرة كما لم يبد أي تعاطف معها أو اهتمام بها فإن الكثير جدا من المسلمين أحزنهم ويحزنهم موت إدوارد سعيد لأن رحيله يعني فقد حليف نزيه ومناضل شجاع ومفكر ذي بصيرة وكاتب ملهم.
( * ) أستاذ علم الاجتماع في الإسلام السياسي/ جامعة ليدس/ بريطانيا
S.Sayyid, University of Leeds.
|