Wednesday 3rd december,2003 11388العدد الاربعاء 9 ,شوال 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

أي حزن يبعث الحمار!! أي حزن يبعث الحمار!!
عبدالله بن ثاني *

استيقظ علي كاظم من نومه قبل يومين بعد وقوع الهجمات الصاروخية في بغداد ليجد حماره مفقوداً. فقال إن أصدقاءه شاهدوا القوات الأجنبية يقتادونه، وأضاف قائلاً: لم أعد قادراً على العمل منذ أربعة أيام، ولا أعلم إن كنت سأسترد الحمار ثانية وتناقلت وسائل الإعلام صور الحمار في الاعتقال.
وبعدها تداعت من ذاكرتي كل الصور الوحشية في الاحتلال ومقاومة هذا الاحتلال التي أثبتت تطور الوسائل لتشمل الحمير والكلاب والقطط في زمن تضاريسه من صفيح وكائناته من ورق مصقول، تتسابق فيما بينها لمسرات الشذوذ والضرورة الخارجيتين عن منظومة القيم والأخلاق السائدة، وكل شيء في الحرب والمقاومة على مر التاريخ لم يكن بهذا السعار وهذه الكثافة التي حجبت الآفاق والرؤية، وأذابت الجبال والسهول لتشكل الأوطان بمواد خام مزيفة، لا خانة لها في الجدول الدوري الكيميائي، ولا تحمل أي عراقة للماضي ولا تجلب أي ذهب للمستقبل، وقد يكون من الواقع المر ما يجعل حكايات اعتقال الحمير وتفجيرها نكاية بالأعداء تبلغ أقصى ما يمكن أن تبلغه التراجيديا الإنسانية والحيوانية سواء بسواء، لأنها تجاهلت وصية سيدنا أبي بكر رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان «وإني موصيك بعشر، لا تقتل امرأة، ولا صبياً، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا لمأكله ولا تحرقن نخلاً ولا تغرقنه، ولا تغلل ولا تجبن». وما أعظم الفرق بين الرؤية الإنسانية التي أصدرت هذه الوصية والرؤية غير الانسانية التي اخترعت تفجير الحمير في أسلوب يبرأ منه الإسلام، ولم تشهده أي لحظة من اللحظات الحاسمة التي تسوغ ابتلاع حبوب المقاومة المستمدة شرعيتها من رفض الاحتلال والهواء الملوث والتراب المصادر والأقدام الطارئة التي تقلق الموتى في قبورهم والأطفال في عيدهم، في واقع لم يتوقع سقوطه إنسانياً ابن خلدون ولا السخاوي الحكيم ولا حتى جيبون صاحب سقوط الامبراطورية الرومانية ولا شبنجلر الذي أرخ لسقوط الحضارة الغربية ولا حتى أكثر الناس فهما للأركيولوجيا وتفكيك قلادة العواصم المنفرطة على صدر الأرض الأرملة، ذات الصوت المبحوح والأجش، فالرصاصة التي اخترقت اللحم ساخنة والألم الذي حل بالمدن كارثي بامتياز والمقاومة بتفجير الحمير تقصم ظهر التاريخ، لأن الإنسان تحول إلى ثور هائج يتحرك أمام خرقة حمراء بيد مصارعيه على الطريقة السادية التي تنتهي مسرحيتها بغرز سيف النبلاء في ذلك الجسد المنتفض.
صدقاً كل جمعيات الأرض لا تستطيع أن تنصف من يولد بندبة في جينية تمتد من عمق تكوينه السيوكيولوجي، فما الحكاية إذن؟
لقد أجاب أسلافنا عن تلك الندبة وذلك الحظ العاثر، فقالوا هناك من ينحت في صخر وهناك من يغرف من بحر، ونقول: إن هناك إيديولوجيات تؤمن أن الكائنات إيقاعات مثلما قال آخرون إنها معادن كالذهب والفضة والحديد، وبكل أسف كان حظ الإنسان في هذا الشرق أن يكون حديداً، لا يحس ولا يشعر، ولا يستفاد من ثقله وكثافته، لأن تلك الأيديولوجيات قادرة على ليه وتشكيله في أي خرسانة مسلحة وربما أدى ذلك التصلب إلى تفجير الحمار بسبب سطوة تلك الأيديولوجيات وكثافة العسكرتاريا التي تنسج ما لا ينسج أصلاً بإبرها الصغيرة وخيوطها التي كانت تربط بها بساطيلها ليصنعوا وطناً على شكل بزة عسكرية، لا شرقية ولا غربية، يكاد يحترق ولو لم تمسسه نار.
في هذا العصر رغم كل ما يعج به من تكنولوجيا وضجيج وتمدن قد تحول الإنسان فيه إلى كائن إسفنجي معزول يلقم كل ما تسرب إليه مؤكداً ما كتبه في زنزانته ريجيه دوبريه الذي رافق جيفارا زمناً وكان صديقاً لفيدل كاسترو عندما وصف حال السجين ووعيه الذي يتحول إلى شفرة تحز العنق، ويتجاوز هذا الإنسان المطور والمستنسخ كل أشكال الرفض ليمثل مواطناً محروماً وجائعاً مزمناً، وأديباً منفياً، وحماراً متشظياً بأصابع الديناميت وبراميل البارود، وهذا الحمار المتشظي كان له الأثر البارز منذ بزوغ فجر الحضارات الأول على أرض الرافدين قبل 7 آلاف سنة، فهو المكمل للجهد الإنساني في تحمله أعباء الجر والنقل والركوب والحرث والري، صابراً لا يئن من الطرق ومطيعاً لا يتضجر من الاستبداد والتعسف شاهداً على أن عقارب الزمن تدور إلى الوراء في عالم لا يتقدم أفراده إلا في العمر المحروم من الحكمة في مرض يقترب أعضاؤه فيه من الموت فقط لأن الليل قد امتد إلى وقت الظهيرة، وخلا الصباح من انتشاء الديكة وأهازيج العصافير، وتولت النجوم مهمة تعريب مصطلحات السقوط والإغراء وتفجير الحمير بمنشورات تبشر بطبعة جديدة من كومبرادورية الأربعينات حتى شملت الوصايا كل الأجزاء حتى أمطرنا السواد بخفافيش الظلام وغربان الأطلال ويد ثالثة تصافح كل هذا العقوق للتراب والتاريخ الإنساني الذي مسحوا خطوطه بممحاة الحرية وليس لها من اسمها نصيب إذ تولوا مهمة تربيع الدوائر وتثليث المستطيلات وتحويل المربعات إلى أشباح منحرفة تجهز بخيانة الخائن وحقد المتربص وقسوة الطارئ الذي أثبت أن التقاء المستقيمات المتوازية غير ممكن إلا في هذا الحمار العربي على أنغام قرع الطبول التي أفزعت هذا الكون لأنها كبيرة وفارغة من كل شيء إلا حزيرانات جديدة وأيلولات مخيفة وتشرينات حزينة. في زمن تدقنا ساعاته وتدور عقاربه بالعراء بعدما وقع الغلاف على يد البطل الذي ألغى مفعول الزمن كما في رواية الصخب والعنف لفولكز، وهو يدرك تماما أنه كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وعوض شغف يده بالساعات الثمينة والماركات النادرة في متوالية دموية لا تعد بأي مفاجآت سارة في المستقبل، لأن عالمنا أشبه بمن وصفهم الشاعر اليوناني كفافي «استحموا» وأخذوا زينتهم وجلسوا تحت أسوار مدنهم ينتظرون وصول البرابرة».
صدقاً من جرب الجوع المزمن ليلة واحدة بلا وطن يتساوى في ذاكرته الثابت والمتحول، ويدرك أن أم آرثر ميلر قد بالغت في نصح ابنها العاطل عن العمل حين قالت الإنسان لا يصنع الفاصوليات من الطين، لأن التراب قد سرق ولم يعد مملوكا لأحد، ومن جرب البرد القارس ليلة واحدة بلا وطن يستعذب الموت على طريقة ضحايا الباخرة تايتنك عندما تجمدوا على سطح المحيط.. ومن جرب المنافي يحلم بوطن ولو كان من قفص.
فما بالنا بكائن جمع بين التجارب كلها الجوع والبرد والمنفى بنسبية لا تختلف عن نسبية ألبرت اينشتاين عندما أراد أن يشرح نظريته لجارته العجوز فقال لها: إن نفخها في الحساء الساخن كي يبرد ليسهل تناوله، ونفخها أيضاً في يديها كي تقاوم البرد الشديد، ومهمتها المتناقصة هي ذات النسبية التي يتحدثون عنها.
فلماذا ينكر الإنسان الحمار أقدم أصدقائه بحجة المقاومة وطرد الطارئ، بل إنني سمعت من يسقيه الخمر ليلين لحمه قبل أن يخنقه بحبال المشانق، التي لا تسمح له برفع الصوت النشاز بحثا عن الربح ولماذا تجاهل تصرفاته التي مدت البشرية على مر التاريخ بمعظم صور الكوميديا والترفيه عن النفس، فضلاً عن التجارب الأخرى فأشهرها مرحا حمار جحا في الزمن الماضي وحمار أفندي الذي صاغه الرسام عبدالمنعم رضا في العصر الحديث، وأكثرها غموضاً حمار الحاكم بأمر الله الفاطمي، وأبلغها صبراً حمار مروان الأموي، وأعلاها أدباً في الغرب حمار الإسباني - خوان رامون فيمينيث «نوبل 1956م» في روايته حماري وأنا، وفي الشرق حمار الحكيم.
وقد سمعت أيضاً أن بعض الكتاب والصحفيين قد دعا إلى إحياء جمعية خيرية مصرية قديمة لحماية الحمير يعود تاريخ تأسيسها إلى بداية عام 1930م، وأتمنى تعميمها في العالم العربي هذه الأيام بعد تهديد هذا الجنس بالانقراض على يد من يفجرها أويقتلها لبيع لحمها، ويذكر أن الفنان زكي طليمات ترأس هذه الجمعية القديمة التي كان هدفها إيجاد مسرح مصري خالص بعيداً عن التدخل في شؤونه المسرحية بإيعاز من الاحتلال الإنجليزي إلا أن الجمعية رفعت شعار الحمار كأحد أهدافها الرئيسة للدفاع عن حقوق ذلك الحيوان الصبور، وقد كان في عضويتها أسماء كبيرة مثل طه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم، ونادية لطفي والسيد بدير وأحمد رجب وغيرهم وكانت هذه الجمعية تعطي رتباً لأعضائها تتدرج من الكر إلى الجحش ثم الحمار الكبير وكل رتبة تتضمن درجات فيها، مثل حمار لجام الذي يرقى إلى حمار برذعة ثم حمار حدوة، ويطلق على رؤساء الجمعيات الفرعية في المدن حمار كبير، وعلى رئيس الجمعية الحمار الأكبر، وحصل على هذا اللقب زكي طليمات ونادية لطفي ووزير الصحة المصري السابق محمود محفوظ.
أيها السادة عندما قال توفيق الحكيم على لسان حمار الحكيم: وكان يمشي مطرقاً في إذعان، كأنما يقول لصاحبه اذهب بي إلى حيث شئت فكل ما في الأرض لا يستحق من رأسي عناء الالتفات، فإنما يريد أن يظهر قدرته الفائقة على ضبط الأعصاب في أشد الظروف، وعدم التأثر بالمتغيرات الخارجية والاستفزازات على أي صعيد كانت حتى وإن كانت النهاية مأساوية كما حصل للحمار بوكسر في رواية مزرعة الحيوانات للكاتب البريطاني جورج أورويل الذي يملك في تلك المزرعة قدرة بدنية خارقة تؤهله لتحمل أعباء الجزء الأكبر من أعمال المزرعة دون التفات أيضاً منه في تلك المزرعة للخنزير نابليون الذي تميز بحثه وتطلعاته غير المشروعة وشعوره بالتفوق والتميز على الآخرين، وتنتهي حال بوكسر بمأساة بعدما أهدر قوته لإنتاج ثمار يستمتع بها غيره، وهزل بدنه من كثرة الأحمال وفقد قيمته فقرر الخنزير الخبيث نابليون بيعه حياً لإحدى شركات إنتاج لحوم الكلاب في صورة ذات مغزى لا تقل عما ذكرها الكاتب الأيرلندي جورج بورناردشو بعد قيام ثورة 23 يوليو وانفجار الوضع السياسي بين مصر وبريطانيا قبل إبرام معاهدة الجلاء الرواية مباشرة عام 1954 فاستطاع أن يوظف شخصياته الحيوانية لبلوغ الهدف الاجتماعي من الرواية على طريقة كليلة ودمنة العربية ومن شخصياته الثعلب الذي اختار الحمار ليقوم بدور ينحصر في حمل الثعلب على ظهره ويكثر الذباب على جرحه بعد أن يموت الثعلب لأنه كان يركبه بلا برذعة مؤكداً ما قاله حمار الحكيم «توما» في أسطورة قديمة، متى ينصف الزمان فأركب، فأنا جاهل بسيط، وأما صاحبي فجاهل مركب. فقيل له: وما الفرق بينهما؟ فقال الجاهل البسيط: من يعلم أنه جاهل، وأما الجاهل المركب فهو من يجهل أنه جاهل ولو كان السياب حياً لاستبدل أنشودة الحمار بأنشودة المطر احتجاجاً على الأوضاع، وقال في مطلعها:
أيها العالم المتمدن أي حزن يبعث الحمار في العراق!!

* الإمارات العربية المتحدة

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved