هل الحب (فعل) اختياري.. أو هو (نتيجة) حتمية..؟؟ سؤال ولا شك عريض جدا من الصعب أن تفي به وتكشف عن كنهه كلمات عابرة..!! خاصة وجميع موروثاتنا على اختلافها تمنح الإجابة للخيار الثاني دون تردد من أن الحب هو قدر يصيب الإنسان دون (إرادة) منه..!!
هذان السؤالان طرحا نفسيهما بقوة وعمق، وأنا أقرأ المقال الذي كتبته هدى المعجل في عدد «الجزيرة» ذي الرقم 11381 وحمل عنوان (قبل أن تفاجأ بهروبه..!) والذي صدرته بعبارة تثبت ترددها وعدم اقتناعها من موضوعها الذي كتبته حينما قالت «مراهقة.. ستسمعها أذني.. وسيخفيها عني المتردد الوجل.. وسيضمرها في صدره القلق المرتاب» واستوقفني كثيرا في مقالها ما اعتبرته اعترافا حينما قالت «سأعترف بوجود الحب.. من زواياه الممتدة.. وبطرقه المختلفة.. وبسبله المتعرجة.. وباقتحامه للقلوب دونما استئذان أو علم مسبق لنتهيأ له.. أو نهيئ له المناخ المناسب.. والأرضية الخصبة.. والفضاء الرحب.. والصدر المتسع.. والحضن الدافئ..!!» واستوقفني في اعترافها أكثر إقرارها أن الحب (يقتحم) و(دونما استئذان) في تكرار للفرضية الموروثة فرض الحب نفسه على القلب دون أن يكون له محض خيار أو إرادة..!!
وتأتي الأخت هدى لتقول في سبيل تأكيد فرضية الحب القهري « قد تكون في أوج محبتك لزوجتك.. فيقتحم في ساعة غفلة الحب صدرك...وتعجز عن طرده.. أو دفعه خارج مملكة كيانك، كما وأنه قد يقتحم صدر امرأة تكون كذلك في قمة محبتها لزوجها واحترامها له وتوددها إليه وحرصها على ارضائه.. فهل بيدها اشاحة وجهها عن الحب؟ وهل ستحاسب لفورة دماء الحب في صدرها وحولها زوج عطوف رحيم؟» الذي استوقفني في كلامها ترديدها لكلمتين تتناقض بعمق مع مضمون ماجاءت به.. وهي قولها (أوج محبتك) و(قمة محبتها) ورغم ذلك تفترض أن الحب (اللا إرادي) يقتلع هذه المنزلة الرفيعة (الأوج والقمة..!!) ولم أكن أرغب أن تستشهد الأخت هدى بقداسة العلاقة الزوجية لتبرهن أن الحب المفاجئ (يقتحم) هدأته فيحمل مشاعر المحبة الواجبة والمفترضة نحو منطقة (مجهولة..!!)
ما سبق من نقولات من كلام الأخت هدى يكرر كما ذكرت الرؤية المتوارثة التي تردد على نطاقات واسعة شعبية وأدبية، من سطوة الحب وسيطرته على قلوب المتحابين..!! ولأني بدأت كلامي بسؤالين أولهما (هل الحب «فعل» اختياري؟) أم هو (نتيجة حتمية؟؟) ويسرني أن أعترض على كلام الأخت هدى جملة وتفصيلا لأقول أن الحب (فعل) اختياري..!! نبني صروحه و(قممه) نحن بإرادتنا.. لأننا نحن نريد ذلك..!! والمؤلم أن يكون ذلك -نادرا في اعتقادي- على حساب رابطة أهم وأقدس وهي رباط الحياة الزوجية..!!
الحب هو نتاج عملية (التركيز) الذهني الداخلي لما يحدث في الخارج، وحيثما كان (تصوير) مايحدث في الخارج في الذهن تكون النتيجة..!! قد يلتقي شاب وشابة في مقتبل حياتهما فيملأ الحب كيانهما ويتصوران أن لا حياة لأحدهما دون الآخر.. فيكون حينئذ الخيار الشرعي العقلي (الزواج!!)، لكن المغرمان - أو احدهما - بعد برهة من زمن يلتفت نحو (عشق) آخر كما مثلت الأخت هدى.. وهنا لن نسأل السؤال التقليدي: أين ذهب الحب..؟ بل سأسأل: لماذا ذهب الحب..؟ وما الذي جعله ينتقل نحو مرفأ آخر..؟ والسؤال المهم: هل بالإمكان (ايقاف) هذا الحب و(إعادته) نحو عشه الطبيعي والمفترض..؟
أما لماذا انتقل..؟ فالسبب أن المحب بدل تركيزه نحو محبوبة من مشاعر محبة ورضا واهتمام إلى مشاعر أخرى، ليس بالضرورة أن ينطق بها، لكنها تفرض نفسها من خلال حديثه مع نفسه، قد يجد الزوج من زوجته مأخذا معينا في لباسها أو حديثها أو أي شيء آخر وحينما تكون (استجابة) الزوج في داخله الذهني سلبية كأن يحدث نفسه بأحاديث منتقدة متبرمة، فإنه إنما يبدأ خطوته الأولى نحو (نقل) الحب..!! والسبب لأنه ركز على أشياء سلبية في محبوبته تعمل مع مرور الوقت على قتل الروح المحبة والمشاعر الدافئة..!! لنأخذ حدثا واحدا يتكرر في لحظات الحب -قبل الارتباط أو في بدايته - ويتكرر مرة أخرى بعد سنة أو سنتين من الزواج.. وننظر ردة فعل الزوج عليه، لنفترض أن (المحبوبة) سكبت كأس الماء على ثوب (حبيبها) دون أن تشعر وهما يلتقيان أحد لقاءات العشق والمحبة.. ماذا سيكون رده..؟؟ ولنكرر الموقف ذاته حينما تفعله (المحبوبة الزوجة) بعد الزواج بسنوات.. ماذا سيكون موقف الزوج..؟؟ ردة الفعل ستختلف فقط عند من أبدلوا تركيزهم الداخلي نحو المحبوبة بعد الزواج.. بينما لن تختلف عند من أبقى تركيزه الداخلي مع زوجته هو ذاته قبل الزواج..!!
وإجابة السؤال الثالث هي بالإيجاب.. أنك تستطيع أن (توقف) حبك الجديد و(تعيده) نحو مدفئه الآمن وملاذه المستحق..!! وذلك يحدث بأن تبدل تركيزك نحو الآخر ونحو من ترتبط بك شرعا (زوجتك)، وسيقول قائل متأثرا بالموروثات السابقة إن هذا مستحيل وأنه يخالف سننا سابقة، فأقول إنه مستحيل لأننا - أحيانا- لانريد ذلك.. أو نستصعبه..!! أو أننا نبحث عن طريق سهل لانريد أن نتكلف معه عناء الإيقاف أو الإعادة..!! ولنا أن نعلم أن السبب الذي جعل القلب يتهيأ لحب جديد ليس تحولا فجائيا كما يظن بل هو (فعل) من التركيز السلبي على مدى وقت طويل ولد تهيؤا واستعداداً للقلب لأن يتقبل أي وافد يفد عليه، يسمح بتعمق تلك العلاقة ونموها نموا سريعا في القلب هو التركيز الإيجابي على الوافد الجديد..!!
وأختم بالقصة التي ذكرها أحد الممارسين في علم النفس حينما تحدث عن ذلك الذي جاءه يسأله عن وضع ابنته بعد انفصاله مع زوجته، ليسأله الممارس عن سبب الانفصال ليجيبه: أنه لم يعد يحبها، فيكرر عليه الممارس القول أكثر من مرة (أحببها..!!) وبعد إقناعه بأنه (مايركز عليه) عاد إليه بعد فترة وهو يمسك بيده زوجته، وقد عدل عن فكرة الطلاق وعاد الحب لعلاقتهما من جديد..!!
فالحب إذن هو (فعل) إرادي.. نحن من نتحكم فيه، ونسمح لأنفسنا بأن يسيطر علينا، ويعضد ذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم « إنما الحلم بالتحلم.. الحديث»، أسأل الله عز وجل أن يديم بيوتنا عامرة بحبه صلى الله عليه وسلم ، وأن يحمي أزواجنا وزوجاتنا من معكرات الحياة ومفسداتها..!!
تركي بن منصور التركي
TMMT22@HOTMAIL.COM
|