في أواخر الشهر الفضيل أغلقت باب مكتبي مودعة ساعات العمل الطويل يشاركني الطريق أختاي وأمي الحبيبة إلى منزلنا نقطع دروب بلدنا الأمينة.. نتبادل أطراف الحديث وما يخبئه لنا القدر وهذا ما لا نستطيع تخمينه.. إلى الطريق الدائري توجهنا.. نسمع أذان المغرب وبكأس ماء فطرنا.. فاذا بزجاج السيارة يرحِّب بقطرة الهتان الأولى تتبعها زخَّات برائحة السماء عطرة.. تلك الرائحة التي تطيب لها الأنفس.. وتتناغم بها الأفكار.. محتضنة نسيماً مرهفاً يلمس الإحساس ويناشد الوجدان.. وأمي وأختاي بالدعاء لله تعالى يبتهلن..
ولا أعلم حينها ما الذي أغمض عيني.. لأشعر بكل حواسي تتجه لله تعالى.. لحظات عظيمة.. رائعة.. ترتقي بالنفس إلى أسمى المشاعر.. وفي غضون دقائق عادت نظراتي لواقع الطريق لأرى فيه ما أعتقدته حلماً إلا أن صوت أمي الناجع صعق بعقلي، فما أراه حقيقة.. فسيارة اصطدمت بأخرى وتلك تلتها اثنتان وتوالت في الصدام الكثير غيرها رغماً عنها وكأنها ترقص رقصة المطر الخيالية.. تلك الرقصة الوحيدة التي يرقصها السائق بسيارته دون حول منه ولا قوة.. وكل واحدة منها تدور حول نفسها متخبطة بالأخرى وكأن طفلاً حذف بها مستمتعا بالتفافها.. اثنتا عشرة سيارة.. خلفنا وأمامنا.. لطفاً من الله تعالى أن نجونا ولكن.. أمام تلك المأساة لم نتوقف حيث جذبنا منظر العائلات المذهولة.. وأصوات الاطفال الباكية.. فتوجهنا نحو عائلة فيها تحاول الأم مرتجفة اليدين.. دامعة العينين أن تلبس نظارتها والأب بدوره يزيل الزجاج الخلفي للسيارة المتناثر على براءة وطمأنينة طفليه..
حول أنفسهم الجميع ينظرون.. وحول بعضهم يتلفتون.. ولطلب المساعدة اتصلنا على «999» على حد علمنا أنهم لذلك.. ولم يجب أحد منهم إلا بعد مضي ربع ساعة من الوقت ومن أجاب ليته لم يفعل.. فبكل برود رد قائلاً: «حوادث الطرق من اختصاص 993 اتصل بهم» يا رجل الأمن أنت تستطيع أن تساعد بأي طريقة كانت، فالمواطن العادي يتوقف للمساعدة قدر الإمكان أفلا تستطيع وأنت رجل أمن مسؤول؟؟
لا أعلم والله كيف طابت لك نفسك أن تقف مكتوف الضمير أمام فاجعة قد يكون من ضحاياها أحد أفراد أسرتك..
إنها ضربة صاعقة بلا شك، جعلتني لا أرى سوى سراباً يمضي مختفياً.. جعلتني في حيرة من أمري.. واقع أعادني إليه صوت طفلة تبكي مستنكرة زجاجاً جرح خدها الجميل.. واقع زاده مرارة مجموعة من الشباب مضوا بسيارتهم يستهزئون بالضحايا، بل يلقون باللوم عليهم لما حدث وأقسم بالله أن أخلاقهم وقحة والرجولة الحرة المسؤولة تتنكر لهم.
. ويبدو أن وقت الإفطار قد أطاح حتى بتجاوب المختصين بحوادث الطرق 993 الذين لم يستجيبوا إلا بعد أذان العشاء والذي أجاب سهل الله له دربه، حيث استقبل البلاغ مستكملاً جميع المعلومات وبذلك أكون قد أرحت ضمير خلق في جوانح نفسي بمساعدة من تركتهم حائرين بمصيبتهم في أحضان الطريق ولكن في الحقيقة وحتى هذه اللحظة ما زال فكري حائراً مستنكراً سؤالاً طرحه رجل الأمن وهو: (ما هي أنواع السيارات المتصادمة» ما هذا؟! هل وقوفي في الطريق العام لمعرفة نوع هذه السيارة وتلك؟
حماة البلد رجال الأمن.. انطلاقاً من مبادئ والدي - رحمه الله - الذي تفانى متواضعاً في عمله أشير أن لكل مستشفى طوارئ وحتى المواطنين في منازلهم وإن كانوا نياماً إذا جاءهم مستغيث أغاثوه فانظروا أنتم.. وإن صدقتم بوجود طوارئ لديكم وتصديتم بذلك لقلمي فالطريق يسأل والسيارات المتصادمة والزجاج المتناثر والأطفال الباكون تضامناً مع قلمي يسألون «طوارئكم وقتها.. أين كانت؟؟!».
|