هنالك أشخاص يعيشون في هذه الحياة الدنيا على التلبيس والتدليس، ويؤمنون بمبدأ «الغاية تبرّر الوسيلة»، ويبنون حياتهم على ذلك بناءً محكماً - في نظرهم - يوارون خلفه أهدافهم، ويتوارون خلفه حينما يخلعون ثوب التلوُّن والتدليس ويعيشون على حقيقتهم العقدية والفكرية والثقافية والخلقية.
وهذا الصنف من البشر موجود في كل زمانٍ ومكان، يقضي حياته الضَّبابية وراء الكواليس، لابساً ثياباً مناسبة للمجتمع الذي يعيش فيه، ناطقاً بلغة مذبذبة تحمل في باطنها ما يريد، وتعلن في ظاهرها ما يُراد، وهو - بذلك - يوهم نفسه بالذكاء والقدرة على الاختفاء وينسى أنَّ في الدنيا من هو أكبر منه ذكاءً، وأعمق منه معرفةً، ولا يفهم - بسبب غفلته - معنى قول الله عزوجل:{ وّلّتّعًرٌفّنَّهٍمً فٌي لّحًنٌ القّوًلٌ وّاللَّهٍ يّعًلّمٍ أّعًمّالّكٍمً } بعد قوله في الآية التي قبلها { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } وبعد قوله تعالى في آيةٍ سبقت هذه الآية بآيات: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ }، وبعد قوله تعالى في آية جاءت بعد ذلك:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ }.
إن الأشخاص الذين يعيشون حالة «التدليس والتلبيس والتلوُّن» يحرصون على التخفّي ويعيشون عذاب اظهار غير ما يؤمنون به من الأفكار حينما يبحرون في اتجاه مضاد للتيار الديني والفكري والثقافي في بلادهم، وتمضي بهم على هذه الحالة سنوات، بل ويمضي بهم العمر كلُّه، إلا إذا حدثت هزَّات اجتماعية أو سياسية أو ثقافية في مجتمعاتهم فإن تلك الهزَّات تظهر ما أخفوه من فكرٍ منحرف، أو عقيدة ضالَّة، أو سلوكٍ غير مستقيم، وهذا معنى قوله تعالى: {أّمً حّسٌبّ الذٌينّ فٌي قٍلٍوبٌهٌم مَّرّضِ أّن لَّن يٍخًرٌجّ اللّهٍ أّضًغّانّهٍمً }، فالآية واضحة كلَّ الوضوح في تأكيد «الفضيحة» لهؤلاء بصورة من الصور التي لا يتوقعونها والاستفهام في الآية أتى بمعنى أنَّ ذلك حاصلٌ لا محالة، فأولئك الأشخاص الذين يعيشون على التلبيس والتدليس يعانون من «مرضٍ في القلوب»، وهذا المرض من الأمراض الخبيثة التي تفسد القلوب إذا أصابتها، وهو مرضٌ لا يصيب إلا القلوب التي تعاني من الاضغان، وكلمة «الأضغان» عميقة الدلالة على ذلك المرض الخبيث لأن معنى كلمة الضِّغن في لغة القرآن الخالدة: الحقد، وقد ضَغِنَ عليه بالكسر ضَغَناً، وتضاغن القوم انطووا على الأحقاد، وقناةٌ ضَغِنَةٌ أي: عوجاء، فهي كلمة دقيقة في تصوير حالة المرض الذي تعان5ي منها قلوب المتلوِّنين الذين يندسُّون في مجتمعاتهم كما يندسُّ المرض الخطير في الجسم، يأكل من صحته وصاحبه عنه غافل.وكما أن الطبّ قد وصل الى أنواع دقيقة من التحليل والأشعّة والمختبرات الحديثة التي تستطيع كشف الأمراض المتخفّية في الأجسام - بإذن الله -، فإن مختبرات الأحداث، والأزمات التي تحدث في المجتمعات البشرية كفيلة بكشف أولئك المدلّسين والمتلوِّنين، والناطقين بلسان الأعداء الذين يعملون على اشاعة الثقافة المنحرفة في مجتمعاتهم.
هنا يتم - بفضل الله - كشف أولئك المختفين وراء بريق العبارات الزائفة زمناً، وهنا يتم اخراج أضغانهم ليطلع عليها عامة الناس الذين كانوا في زمن «التدليس» ينخدعون ببريق عباراتهم. أما أصحاب العلم والرأي والوعي والبصيرة فهم يعرفون أولئك من قبل من خلال «لحن القول» الذي لا يخفى على أهل البصيرة والمعرفة. هنالك أقلام تنتمي الى هذه الفئة المريضة بالأضغان تدسع سُمَّاً على صفحات الصحف والمجلات، والكتب والروايات، وهنالك ألسنة تفيض بما يدلُّ على ذلك المرض الخبيث الذي تعاني منه القلوب، وقد أخرجت الأحداث الأخيرة من بعد «الحادي عشر من سبتمبر الشهير» أضغاناً ما كان الناس سيعرفونها لولا هذه الأحداث.
نقول للذين أخرج الله أضغانهم في هذه المرحلة: لا تنسوا أنَّ المعاد الى ربِّ العباد.
إشارة
في قومنا من يدعي صدق الهوى
ودم الهوى في عرقه يتخثَّرُ
|
|