واأسفاه، لم نعد قادرين على الحوارِ معكم، وأنتم تغتالون الحوارَ وتفتكون بالأبرياء، كأنكم من زمنٍ لا نذكرُهُ، من مكانٍ لا ندركُهُ، ولغةٍ لا نعرفُها! هل رضعتم من أمهاتِنا حقَّا؟ هل تذكرون الطفولةَ التي كنتم؟ هل لعبتم أطفالاً بالمراجيح؟ هل تتْلُوْنَ ذات فرقان اللهِ الذي نتلو؟ هل تعلمتم من مدارسَنا؟ هل رتعتم في شوارعنا؟ هل تحبُّون الشعرَ والفنَ والمُتعَ مثلنا؟ هل تعشقون المطرَ والنخيلَ مثلنا؟ كيف كرهتم الحياةَ إلى هذا الحدِّ؟ هل أنتم بشرٌ؟ هل أنتم وحوشٌ؟ فحتى الوحوش لا تحملُ الحقدَ الذي يسوغُ لها قتلَ نفسِها والآخرين! كأنكم وُلِدّتم من الجحيم!
هو شأنُكم أن تبصروا الجنةَ في الفناء، أن تمقتون الحياةَ وتعشقوا الموت! فاقتلوا أنفسَكم بعيداً عنا! اخرجوا منَّا.. ارحلوا إلى بلادٍ لا أهل لها، فنحن نحبُّ أطفالنا وأهلنا وبلادنا وأنفسنا.. نُحبُّ الحياةَ كي نُعمِّرها كما شاءَ ربُّنا وكما خلقَنا على الفطرةِ الأولى! أيها المُنْبَتُّونَ من الذاكرة، النابتون في المجهول، اخرجوا مِنَّا فليس لنا أرضٌ تؤويكم ولا سماء تظلكم.. وحين تألفون الحياة مثلنا فإن بيننا متسعٌ للأبجدياتِ وللبراءةِ.. في البستان ما يكفي من الثمرِ اليانعِ، والمُرْجُ ينضحُ بألوانٍ تتباهى.. في وسعنا أن نتبادل هذا الجمال، فلا توقدوا المعركة! عودوا إلينا، سنهدي عطشكم قِربةً مضمَّخةً بماءِ الصفحِ. سنقول لمن لم يسفك دماً: لا غضاضةَ من وهنِ الروحِ! فعُودوا إلى أهلِكم، عودوا إلى مراتع الطفولة.. ودعوا أرواحَكم تنامُ في هدأةِ الحنيِن بين أحضان أمهاتكم.. استضيئوا بمصابيح آبائكم إنَّ الظلمةَ حالكةٌ في فضاءِ عيونكم.. اقطفوا زهرَ كلامنا واغرسوا الوردَ من حقولِ أيديِكم ولا تعبثوا بالأسلحة!
أتراكم تراوغون بحوارٍ معنا؟ فليكن! فمن أنتم؟ جماعة المجهول؟ أخبرونا من أنتم؟ أسبغوا على أنفسكم ما تشاءون من ألقابٍ: مجاهدينَ، مجتهدينَ، ملتزمين.. أما نحن فمن أجدادِنا الذين أقاموا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ وكانوا من الصابرين.. نحن من جهادِ أجدادِنا الذين غرسوا الفسائلَ ورووا ظمأ النخيلِ عرقاً ودمعاً.. نحن من رحيقِ جداتِنا اللواتي امتزجتْ أصابعُهن بقبضاتِ المناجل.. نحن من مَرَحِ أجدادِنا الذين رقصوا لأفراحهم وكابروا بالشعرِ وبالطُرفةِ على أتراحِهم.. نحن من جداتِنا اللواتي أنشدن للحبِّ والجمالِ وغنجِ النخيل.. نحن نسل من أكرم الضيف وآخى الغريب وابن السبيل. هذه دوحة أجدادنا وارفة التباهي، فلن تقطعوا شجر العائلة! هؤلاء أجدادنا ونحن امتدادٌ يانعٌ لأرضٍ قد حضنتهم، فمن أنتم؟.. ليس مِنَّا من يزرع قنبلةً في حدائقنا، ليس مِنَّا من يُخاتلُ الآمنينَ المسالمين الغافلين. ألم تجد شجاعتُكم وجهادُكم غيرَ الغدرِ بالأطفالِ والنساءِ ليلا؟ هل توارون سوءتَكم بورقةِ توتِ جهادِكم؟ لا! لستم مِنَّا ولسنا منكم!! لم نعد قادرين على لعبةِ الحوارِ معكم، فماذا تريدون منَّا؟ أنكون قطيعاً لدراويش الظلامِ وللخردواتِ من فقهائِكم؟ أولئك الذين هرقوا النصوصَ المترعاتِ فوق المذبحة، ثم مضوا صمتاً كأن الريحَ لجمت أفواهَهُم.. أو تبرَّءوا من مجازركم جهاراً وباركوه سراً.. فالغادرون من وراءِ الظهرِ يطعنون، وهؤلاء من الخلفِ قضموا الجمجمة!! استفتوا قلوبَكم، فالقلبُ بوصلة! تأملوا تفاصيل الحياة ودعوا النص الماضوي العنيف. أيُّ فقيهٍ ذاك الذي يعمِّدُكم أبطالاً.. يُؤلبُكم على أهلكم، ويُفتي لكم بقتلِ الناسِ في أسواقهم ومنازلهم؟ أفرغوكم من الذاكرة وأفرغتم أفعالكم من المعنى! أوكانت معركةً مسلحةً بينكم وبين البشرِ قاطبة؟ فليكُنْ، ألم تقرأوا وصايا نبينا وأبي بكر وعمر في الحروب؟ ألا تعرفون أصول الحرب؟ متى تستيقظون من سَكراتِ فنائِكم؟
أحرب إبادةٍ تنوون؟ هل ستفرحون كثيراً إذا ما أودتْ قنابلُكم بنا؟ أيكون في قتلِ طفلةٍ ما يمتعكم، ونحن لا ندري؟ أهتك الحرماتِ والمسراتِ وإفساد الزرعِ والضرعِ يسرَّكم؟ إذن تفضل يا دعيَّ الصحوةِ، يا صاحبَ الحظوةِ المصطنعة، يا مريدَ فقيهٍ تنامى في الظلام.. تفضل وأعلن جهادَك ضد أطفالِنا ونسائِنا.. عربد ما عهدت أفكارك من تأويلٍ مريض.. وخيالٍ حضيض.. افتك ما شئتَ من دم الأبرياءِ ومن الأهداف السهلةِ التفجير.. لن تنجوَ من آثامِك..سوف تلاحقُك نفسُك بعويلٍ لن يُنيمك.. ستأتيكَ أضغاثُ أحلامِكَ بأصوات تغاريد أطفالِنا صارخةً هلعاً مما اقترفتهُ يداك، سيأتيك بكاءُ الأمهاتِ ببراءةِ هجعتِهم مع أطفالهم قبل أن تتركهم قنابلكم جثثاً من رماد. تفضلوا أيها المنظِّرون للدمارِ ستصحو ضمائرُكم ولو بعد حين.. سيخرج عليكم أنينُ الضحايا من الأقبيةِ التي تبنونها.. من المتفجراتِ التي سرقتمُوها.. سيأتيكم نحيبهم من أصابعكم التي تُحرِّكُ الزناد.. من المناماتِ التي تهجعون إليها.. من سمائكم، من أرضكم، من أنفاسِكم، من أحداقكم، من كل شيء..كلما مشيتم وأنَّى حللتم سيباغتُكم رعدٌ يزلزلُ ضمائرَكم النائمة، ويوقظُها بطنينٍ يوجعُ عظامَكم وقلوبكم حتى تنفطرَ من تبكيِتِها! فلعلَ ماءَ التوبةِ يتلألأُ في عيونِكم أو تمضونَ مع الخاسرين الهالكين!
يا عشاقَ الكهوفِ، تكتبونَ الوصايا وأنتم في عتمةِ المغارةِ تعمهون.. أيها الخفافيش القابعة في شقوقِ المغاراتِ، يُمكنكم أن تقتلوا العصافيرَ لكننا لن نريحَكم بصكِّ البراءةِ والحوار.. لن نُكافئكم بالمصالحة.. لن نهابَكم ومعنا ديننا وأهلنا وأوطاننا، معنا أشجارنا وأحجارنا وطيورنا.. كلها تتبرأ منكم! ربما يمكنكم أن تكتموا الفرحَ بيننا قليلاً، لكن لن تغتالوه فينا! أوقدوا الحرائقَ سنستسقي المطر.. اغرسوا الشوكَ سنبذر القمح.. دمّروا المبنى سنبني المعنى.. سفِّهوا الأقلام سنواصلُ الأحلام.. أطفئوا اللغةَ سنُشعلُ فوانيسَها قصائدَ حُبٍّ تمشي وعشقاً يضيء.. اشحذوا معاول الهدم سنرفعُ رايةَ البناءِ خفاقةً من قلوبِنا إلى سنامِ الكواكب.. فماذا عسيتم من خرابكم؟ أن تجنوا من الشوك عنباً؟
أما الآن فلا لغةٌ ولا حوارٌ ولا جدل.. قد نَضَبت جميعُها! فقط أنصتوا لنحيبِ أطفالٍ يَتّمتمُوهم وخطفتُم فرحَ الطفولةِ منهم.. أصغوا لعويلِ أمٍّ ثكلتمُوها وغرستم في عينيها حزناً سرمدياً.. لبكاء أرملةٍ فجعتمُوها تهيجُ البواكيَ.. لأنينِ شيخٍ جليلٍ طعنتم كبرياءَه في خاتمته.. لمدنٍ عثتم فيها فساداً وإفساداً.. كلهم يدعونَ عليكم في هزيعٍ من ليالٍ ليس بينها وبين السماءِ حجاب.. «فالحمدُ للهِ الذي لا تُواري عنهُ سماءٌ سماءً ولا أرضٌ أرضاً».. ولله عقبى الدار!
|