انتهت المقالة السابقة بالإشارة الى شيء من ملامح لون من الشعر المقول بغير اللغة العربية الفصحى، لكنه فصيح المفردات بعمومه. ومن الممكن القول عنه:
1- أن منه ما هو بديع محلِّق لا يقلُّ إمتاعاً لمن يفهم عباراته عن الشعر المقول باللغة العربية الفصحى.
2- أنه يبدو أقرب الأشعار بغير الفصحى الى الشعر بها؛ مفردات وسبكاً وأوزاناً، وأنه كان - إلى وقت قريب - يؤدِّي الدور الذي كان يؤدّيه الشعر بالفصحى في مجريات الأحداث الوطنية.
3- أن ما أثر منه يدل على أن من شعرائه الأوائل؛ وبخاصة الحاضرة من بدوا وكأنهم يحاولون قوله باللغة الفصحى. لكن لأنهم لم يكونوا يجيدون قواعدها جاء ما حاولوه متعسفاً ثقيلاً على سمع المتلقي، فأصبح الواحد منهم أشبه ما يكون بالغراب الذي أضاع مشيته ومشية الحمامة. وسرعان ما اختفت تلك المحاولات. على أنه الآن لم يعد موغلاً في محلّيته.
ذلك ان لهجات الأقاليم النجدية تداخلت بشكل ملحوظ نتيجة الاختلاط في المدن الكبرى، وانتشار التعليم، والاستماع والتأثر بما تبثُّه وسائل الإعلام المرئية والمسموعة. فبدأت تسود لهجة شبه عامة دخلتها تعبيرات فصحى.
ويختلف الكتَّاب في تسمية ذلك اللون من الشعر متأثِّرين، فيما يبدو، بظروفهم القطرية الاجتماعية. فهناك من سمَّاه بالشعر البدوي؛ وبخاصة في العراق، ربما لأنه الشعر المتداول كثيراً بين القبائل البدوية التي هاجرت، في القرون الأخيرة، من وسط الجزيرة العربية الى العراق؛ مثل فئات من شمَّر وعنزة. وهذا صحيح بدرجة كبيرة. لكن كان من أقطاب ذلك الشعر في العراق أناس مثل ابن لعبون وابن ربيعة اللذين كانا حضريين هاجرا من نجد الى جنوب العراق، فعاشا هناك. واضافة الى ذلك فإن الحضر من أشراف الحجاز، كالشريف بركات، وحاضرة نجد، قادة وغير قادة، لم يقصروا باعاً فيه عن اخوانهم من البدو. بل إن أكثر أصحاب الدواوين الكبيرة في هذا المجال كانوا - وما يزالون - من الحاضرة.
وهناك من سمَّى الشعر المتحدث عنه بالشعر العامي. وهذه التسمية أقرب من سابقتها الى حقيقته إذا أخذ على أنه لم يتقيَّد بقواعد إعراب اللغة العربية الفصحى. لكن ينبغي أن لا يتبادر الى الذهن أنه مما يقوله عامة الناس فقط، ذلك ان أعداداً من أشراف القوم؛ حكاماً وزعماء قبائل وأمراء بلدان، قالوا هذا الشعر. بل إن من علماء الدين واللغة من قالوه مع قدرتهم على قول الشعر باللغة الفصحى؛ مثل الشيخ القاضي محمد البواردي، رحمه الله، والشيخ عبدالله بن خميس عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة، متَّع الله بحياته.
وهناك من سمَّى هذا الشعر بالشعر الشعبي؛ وهي تسمية متأثرة، فيما يبدو بكتابة من كتبوا عن أشعار بغير الفصحى في مختلف الأقطار العربية وفي طليعتها مصر.. لكن من الباحثين من يقول: إن الشعر الشعبي هو الشعر الذي يردده أفراد الشعب دون معرفة قائليه. وإذا قبل هذا التعريف فإنه لا ينطبق على الشعر المتحدث عنه هنا لأن قائليه، بعامة، معروفون. ولا ينبغي أن يفهم من التسمية أنه وحده الشعر المعبِّر عن خلجات الشعب، أو الذي يعتز به دون غيره. ذلك أن الشعر بالفصحى يفوقه تعبيراً عن قضايا الأمة، وهو الذي يحتلُّ الصدارة في تراثها.
على أن التسمية الشائعة لذلك اللون من الشعر في نجد وشرقي الجزيرة العربية هي الشعر النبطي. ويرى الأستاذ خالد الفرج، رحمه الله، أن في تسميته بهذا الاسم دليلاً على أنه أتى الى وسط الجزيرة العربية من سواد العراق لأن اسم الأنباط كان يطلق على فلاحي تلك الجهات التي لحق بها تحريف اللغة العربية قبل جريرة العرب. غير أن من الواضح ان بني هلال - وهم عرب أقحاح - قالوا هذا الشعر قبل هجرتهم من جزيرة العرب الى شمال أفريقيا، ولم يكونوا متأثرين بأولئك الأنباط.
والذي يبدو أن اللغة العامية كانت تسير جنباً الى جنب مع اللغة الفصحى عبر القرون المتتالية. أما سبب التسمية المشار اليها فيظهر أنه عائد الى كون قائله لم يتقيد بقواعد اللغة العربية، فأصبح مثله مثل النبطي الذي لم يكن يجيد هذه اللغة نفسها. فكان في تسميته - أول الأمر - بهذا الاسم نوع من الازدراء ثم أصبحت التسمية علماً عليه مع مرور الوقت، ولم تعد تحمل لدى الكثيرين ما كانت تحمله من دلالة دونية. وقد وردت تسميته بالنبطي خلال القرن العاشر الهجري. ثم كان ممن ذكره بها الرحالة بالجريف، الذي زار وسط الجزيرة وشرقيها عام 1863م.
ومن الواضح ان بعض علماء نجد كانوا ينظرون اليه نظرة دونية. ومن هؤلاء المؤرخ عثمان بن بشر المتوفى سنة 1290هـ. فقد قال في موضع من تاريخه: «قيل في الحصار قصيدة طويلة.. ولو كانت على اللفظ العربي - يعني بالفصحى - لأوردتها». وقال في موضع:«رثى الإمام تركي بن عبدالله عدد من الشعراء، ولكن ليست على اللفظ العربي فلا تليق بهذا الكتاب». وقال في موضع آخر:«مدح (فيصل بن تركي) بقصائد على لفظ العرب ولفظ النبط».
والمتأمل في موقف الملك عبدالعزيز، رحمه الله، يرى مساندته لاستعمال اللغة العربية الفصحى. من ذلك أنه أدرك ما يحتمه موقع الوطن من كونه مهد العرب ومهبط الوحي بلغة القرآن الكريم، فحرص على افراد اللغة الفصحى بالاستعمال في لقاءاته الرسمية، وفي طليعتها الاحتفال بموسم الحج.
فمع ان المتعلمين من الشعب في عهده كانوا قليلين فإن الشعراء الذين كانت تتاح لهم فرصة القاء قصائد أمامه وأمام ضيوفه كانوا شعراء الفصحى.
على أن الوضع في الوقت الحاضر اختلف. كان المتوقع ان وفرة المتعلِّمين - نتيجة انتشار التعليم - ستؤدِّي الى ازدياد مكانة الفصحى رسمياً وشعبياً. غير أن الشعر النبطي أخذ يزاحم ما هو بالفصحى في المناسبات الرسمية. بل إنه، أحياناً، يحلّ محلّه. أما على مستوى وسائل الإعلام فحدِّث ولا حرج. فما ينشر في الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية منه يفوق كثيراً ما ينشر فيهما مما هو بالفصحى. والبرامج الإذاعية؛ مسموعة ومرئية، المخصصة له أضعاف تلك المخصصة لما هو بالفصحى، بل إن الأمسيات الشعرية المقامة به في مختلف مناطق الوطن أكثر وأعظم احتفاء وحضوراً من تلك التي بالفصحى.
ومن الواضح أن مما زاد انتشاره اندفاع بعض شعراء الفصحى؛ وبخاصة الشباب الحداثيون، الى كتابة شعرهم بطريقة غامضة المعنى فاقدة الجرس. والذاهب الى أمسية شعرية يعجبه أن يكون معنى القصيدة مفهومهاً، ويطربه أن يسمعها ذات جرس موسيقي. ومما زاد انتشاره، أيضاً، تغنِّي المغنين والمغنيات به؛ إعجاباً بكلماته أو رغبة في الحصول على المبالغ التي يدفعها بعض قائليه من ذوي الغنى.
هل في ذلك خطر على الفصحى؟
إن وجود ذلك اللون من الشعر - بغض النظر عن تسميته - جنباً الى جنب مع الشعر بالفصحى واقع؛ ماضياً وحاضراً، وسيظل - فيما يبدو - مستمراً مستقبلاً. لكني أكاد أجزم - من تجربتي الخاصة وتجربة آخرين - أن مجرد ذلك الوجود لا يمثل خطراً على الفصحى. فلم أحس أن كتابتي إيَّاه تؤثر على كتابتي الشعر بالفصحى. على أن الموقف الأمثل، أو الواجب اتخاذه، أن تكون المكانة الأولى للشعر بالفصحى. كيف يتحقق ذلك؟.
من الخطوات التي يمكن أن تتخذ إقناع المسؤولين بأن يكون ما يلقى أمامهم في المناسبات الرسمية، التي يحضرها غير سعوديين بالفصحى. ومن هذه الخطوات أن تقلَّل المساحة المتاحة لنشر الشعر بغيرها في وسائل الإعلام الصحفية والإذاعية تدريجياً. وبتقليل تلك المساحة يرجح أن يتجه بعض شعراء ذلك اللون عن الشعر؛ وبخاصة ان كثيراً منهم الآن خريجو جامعات، الى الكتابة بالفصحى. ولو تم هذا لكان فيه مكسب جيد للفصحى يساهم مع تبني المسؤولين نهج الملك عبدالعزيز بأن تكون الفصحى وحدها المستعملة فيما يلقى أمامهم من شعر في المناسبات الرسمية - في تعزيز مكانة لغة القرآن الكريم الاجتماعية.
|