ما زال العالم العربي يتخبط في عزلته الاقتصادية بفضل السياسة والإدارة والقرارات المتنوعة غير المدروسة، ضمن هذا الواقع المتأزم كثيراً بسبب احتلال العراق وتزايد التوتر المخيف في فلسطين وتعثر الإصلاح والنمو في كل الدول العربية، لا بد من التساؤل عما يؤخر التنمية الاقتصادية العربية وماهي الحلول وإمكانية تنفيذها بالرغم من أن العالم العربي غير متجانس اقتصاديا، أي هنالك مجموعة نفطية ميسورة وأخرى متأخرة نسبياً وبالمطلق، فهو ينعم بخصائص مشتركة عميقة أقلها في الاجتماع والتاريخ والسياسة.
في كل حال تشكل مشاكل لبنان الاقتصادية نموذجاً لما يحصل في العديد من الدول العربية. تشكل جدوى الانفاق العام جوهر المشكلة المالية التي تنعكس سلباً ليس فقط على الحاضر الاقتصادي العربي وإنما على مقومات النهوض المستقبلي.
ايرادات اليوم، بما فيها النفطية، ليست دائمة في وجود الجيوش الأجنبية فوق منابع النفط وبقربها مما يعطل سلاح العرض كما أن تكنولوجيا الطاقات البديلة هي في تطور مدهش ومستمر في مختبرات وجامعات الغرب. ترشيد الانفاق يشكل قلب الإصلاح وعليه تبنى المالية العامة الصحيحة. كما أن الإدارات العامة بحاجة إلى اصلاح في العمق، أي في القوانين والأداء والمؤسسات بحيث تعمل لتسهيل حياة المواطن وعمل المستثمر وليس لتعقيدهما. كما تحتاج الدول العربية إلى مراجعة حجم ودور القطاع العام في الاقتصاد، بحيث لا تنزف الأموال هدراً، بل تستعمل لتحفيز النمو وتسهيل عمل القطاع الخاص.
تنمو الدول العربية بنسب أقل من متوسط مجموعة الدول النامية بالرغم من الغنى الطبيعي الذي قل مثيله، فبين سنتي 2001 و2002م نما الناتج المحلي الاجمالي الفردي بما يقارب 1 ،1% في مصر و2% في الأردن، و6 ،0% في سوريا وتراجع 3 ،0% في لبنان، أي جميعها أقل من متوسط الدول الناشئة البالغ 2 ،2%، كما يدل بعض المؤشرات الاجتماعية على الواقع المتأخر نفسه، إذ بلغت في سنة 2001 نسبة وفيات الأطفال من الألف حوالي 54 في الدول العربية مقارنة بـ34 في أمريكا اللاتينية و44 في شرق آسيا و7 في الدول الغربية. بلغت نسبة الانفاق العام على الصحة لسنة 2000م من الناتج المحلي الاجمالي حوالي 9 ،2% في الدول العربية مقارنة بـ3 ،3% في أمريكا اللاتينية و6% في الغرب.
يظهر الفارق بين المجموعتين العربيتين جلياً في بعض المؤشرات الاجتماعية المهمة كالعمر المرتقب الذي بلغ سنة 2001 حوالي 73 سنة في البحرين و74 في عمان و75 في قطر والإمارات مقارنة مثلاً بـ58 في السودان، و62سنة في العراق. إلا أن موضوع التنمية الاقتصادية الاجتماعية هو شامل في تغطيته الجغرافية والقطاعية والشعبية داخل الدول وفيما بينها، مما يؤكد على أن مسيرة التنمية العربية ما زالت في بدايتها، فبالإضافة إلى الحواجز السياسية الداخلية والدولية، نوجز أهم عوائق التنمية في الدول العربية كما يلي:
أولاً: تأخر «الثورة» الصناعية التي حصلت في القرن الثامن عشر في بريطانيا وثم في أوروبا. تنبع التسمية من كتابات الاقتصادي الفرنسي بلانكي Blanqui في سنة 1837 الذي وصف ما حصل في بريطانيا بالثورة، كما وردت التسمية نفسها في كتاب انغلز Engels حول أوضاع العمال في انكلترا الذي نشر في سنة 1844م، كما في بعض مؤلفات ارنولد توينبي Toynbee.
في كل حال لم تكن هذه «الثورة» عنيفة وسريعة وإنما كانت انتفاضة متواصلة في الفكر والعمل والانتاج والانتاجية على مدى عقود. كما لا بد من الرجوع هنا إلى كتابات روستو Rostow. في سنة 1956 الذي فصل مراحل النمو الصناعي الخمسة، بدءاً من مرحلة المجتمع التقليدي إلى مرحلة ما قبل النهوض فإلى النهوض ثم مرحلة النضج الصناعي وأخيراً مرحلة المجتمع الاستهلاكي، فالعالم العربي ما زال في المرحلة الثانية أي ما قبل النهوض، أو ما بين الثانية والثالثة على أبعد تقدير بانتظار حصول التطور الاقتصادي والفكري في أقرب وقت.
ثانياً: التأخر في اعتماد العلوم والتكنولوجيا بمختلف حقولها وأنواعها، فالبرامج التعليمية بحاجة إلى إعادة نظر في المحتوى والشمولية بحيث نحضر للمستقبل. من القطاعات الأساسية التي تشير إلى تقدم أي مجتمع هي الاتصالات وما يسبقها من تجهيزات في المعلوماتية وما يتبعها من توافر للمعلومات خصوصاً عبر الانترنت، تبلغ نسبة عدد خطوط الهاتف الثابت والخلوي لكل 100 شخص في سنة 2002م حوالي 43 في لبنان و36 في الأردن و18 في مصر مقارنة ب 72 في الكويت وقطر و122 في فرنسا و142 في إسرائيل، الخلوي ينمو طبعاً على حساب الثابت في كل دول العالم بسبب سهولة الاستعمال وحسن إدارته من قبل القطاع الخاص، كما بفضل سوء إدارة الدولة للقطاع الثابت، أما عدد مستخدمي الانترنت من كل 10 آلاف شخص فبلغ سنة 2002م حوالي 1171 في لبنان، 129 في سوريا، 615 في السعودية و3674 في الامارات مقارنة ب3014 في إسرائيل و4062 في بريطانيا و5519 في كوريا الجنوبية.
يتوقف استعمال خدمة الانترنت على توافر التكنولوجيا المناسبة مع تعريفات حديثة تسمح للفكر بالتجول في الشبكة التي لا حدود لها.
ثالثاً: المشكلة أو «القنبلة» السكانية المرتبطة ليس فقط بالاقتصاد وإنما بالاجتماع والدين والسياسة، ففي سنة 1950م، كان 32% من سكان العالم يعيشون في الدول الصناعية، أما اليوم فقد تدنت هذه النسبة إلى 19%، مما يؤكد على الثقل السكاني المتزايد في الدول النامية. نسبة الولادات مرتفعة في العالم العربي في وقت تدنت فيه نسبة الوفيات مع التطور الصحي. بلغت في سنة 2002 نسبة الولادات من الألف حوالي 24 في مصر و20 في لبنان و25 في الأردن، مقارنة بـ12 في فرنسا و18 في البرازيل و16 في تايلاند، نجح العديد من الدول في تخفيض نسب الولادة بسبب الوعي والحاجة والارادة الشخصية. ففي دراسة فريدة للاقتصاديين الأمريكيين بارو Barro وماكليري McCleary نشرتها حديثاً مؤسسة NBER عن العلاقة بين الدين والنمو، عبر عينات احصائية أخذت في 59 دولة في العقدين الماضيين، تتبين العلاقة الإيجابية بين الاعتقاد الديني والنمو الاقتصادي. فالايمان بالدين يدفع المؤمن إلى اعتماد الأخلاق في الأعمال وبالتالي يساهم في رفع الانتاجية وخلق النمو. لذا يمكن الوصول إلى مجتمعات تعالج المشكلة السكانية دون أن تمس بالمقومات الاجتماعية والروحية التي تبنى عليها.
رابعاً: توافر المناخ الدولي للبناء والمساعدة وهذا لن يحصل قبل استتباب نوع من الاستقرار الاجتماعي. فالدول الصناعية كما المؤسسات الدولية لا ترغب في هدر أموالها، بل في انفاقها حيث يجب، خاصة وأن الحاجة كبيرة جداً في كل مناطق العالم. توافر المناخ الدولي في الهبات للدول الفقيرة وفي القروض للدول المتوسطة الدخل وفي الإرشاد التقني للدول العربية الميسورة هو المطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى. كما لا بد للدول العربية من أن تفعل التجارة فيما بينها لخلق نوع من المنطقة التجارية العربية تحضيراً لاستكمال مفاوضات الجولة التاسعة الدولية التي بدأت في الدوحة في سنة 2001م وتوقفت في كانكون منذ شهرين.
بالإضافة إلى حتمية المباشرة في وضع حلول للمشاكل المذكورة أعلاه، لا بد من اجتذاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تستقدم معها التكنولوجيا والأموال كما النمو، تتأخر المنطقة العربية كثيراً في السباق على هذا النوع من الاستثمارات بسبب الأمن والسياسة وتأخر الإصلاح.
الوقت ليس معنا وإنما دائماً مع الذي يسعى إلى التقدم، وهو ما عرفته دول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية في العقدين الماضيين. المطلوب بناء اقتصاديات قوية متنوعة لا تتعرض لكوارث كل عشر سنوات. فهل الدول العربية بحكوماتها وشعوبها جاهزة لهذا التحدي؟
www.louishobeika.com |