إهداء.. إلى من أشرقت في سمائي ذات خريف.. إلى الشروق السعيد.. نبض وفاء.. وفيض محبه.. اسدل الليل أستاره على أوصال الكون النابض بالحركة والحياة، ليضفي شيئاً من روحه الهادئة على ذلك الحي القابع وسط المدينة، وعَمَّ السكون وهدأت الكائنات، ما اجمل سجى الليل وهدوئه! الليل.. ذلك المخلوق الرائع.. ذلك الكائن الخفي.. ذلك المحاور الصامت.. ما أجمله! ما آلمه! ما أطوله وما أقصره! كل تلك المتناقضات تجمعت في رأسها في ذلك الوقت الهادئ من الليل الذي لا يبدد سكونه الا صفير بعض الحشرات.. وجعجعة القليل من السيارات النادرة.. وانفاسها الحرّى المتلاحقة، كانت تجلس في زاوية من الغرفة على مكتب قديم.. لم يزده تقادم العهد الا روعة وبهاء لروعة الذكريات المنسكبة في أدراجه على صفحات من دفتر عمرها المنصرم.. وجهها المدور الناصع كأنه القمر ينير ظلمة هذا الليل.. عيناها المشعتان كحبات نجوم تضيء طريق السالك في هذه العتمة.. شعرها المنسدل على كتفيها.. الممتد على ظهرها كأنه الليل طولاً.. جمالاً.. وهدوءاً..
كانت تنير تلك الشمعة التي اعتادت مجالستها على ذلك الكرسي الجميل ليبدو المنظر وكأنه شعلة من النور على صفحات الغرفة القاتمة.. أمسكت القلم، وبدأت تتصفح سجل عمرها وتكتب بمداد يسيل من فؤادها إلى أناملها ليصل إلى قلمها ليسطر ما أملته عليها مخيلتها المجنحة.. وبدأت ترسم صورة للمستقبل الفريد.. الرائع بإذن الله تعالى ، وتخط عبارات تمنت ان تسمعها على أرض الحقيقة.. لا ان يطويها الزمن في دفتر الذكريات كما طوى صفحة عمرها في سجلاته الخاصة.
رسمت صورة لعصفور مهاجر.. متنحٍ قليلاً عن السرب، وقد لوى عنقه إلى الوراء، ثم أغلقت دفترها، ووضعت رأسها على المكتب واخذت تنظر بعينين حالمتين إلى البعيد.. ترى الطريق الممتد امامها على نور الشمعة وكأنه طريق العمر.. ما الذي جمع بين هذا وذاك؟! إنه خيالها المجنح.. فجأة! نهضت من مكانها واطفأت الشمعة واستلقت على سريرها.. ا سترسلت في تفكير عميق.. آه.. إنه بحر، بلا ساحل ذلك التفكير الذي ينقلك ما بين مدائن العالم الحالم تنتقل من واحدة إلى أخرى وأنت في مكانك.. ينقلك من مصاف البسطاء إلى مصاف العظماء.. ينقلك ما بين مدائن العالم الحالم تنتقل من واحدة إلى أخرى وأنت في مكانك.. ينقلك من مصاف البسطاء إلى مصاف العظماء.. ينقلك من قبضة الطين إلى سمو الروح وانطلاقها.. ينقلك من هنا وهناك.. ولكن، اذا صحوت.. صحوت على الخيال.. على العدم.. على الحقيقة المرة..
أحياناً تتمنى الا تعود من خيالاتها، لأنها مصدر سعادتها بل وشقائها أيضاً.. إعادتها من كل هذه الخيالات أصوات طرقات على النافذة.. أحست بالخوف والرعب.. أحست ان قلبها طائر يريد التحليق، وليس الانحجاز بين قضبان ضلوعها.. أمسكت به وبقوة خوفاً عليه من الفرار..
عادت وأشعلت شمعتها رغم الخوف الذي كان يسيطر عليها الا أنها لم تلجأ إلى المصباح.. بل إلى الشمعة!!
إنها تهوى الشموع
ولكن، أين هي من حياتها؟!!
عادت الطمأنينة والهدوء إلى نفسها عندما علمت أنها حبات المطر المتساقط ليزيد من روعة الليل وجماله جمالاً وروعة مضاعفة.. لقد تذكرت في تلك اللحظة العابرة خيالات كثيرة ومواقف عدة.. تذكرت فانتعشت.. تبسمت وعادت إلى قلمها من جديد لتبثه بعضاً من أحلامها المستقبلية ولتنثر على صفحات عمرها الضوء والروعة والجمال.. ولكنها كتبت وبكل قساوة.. وبخطوط متعرجة.. اشبه بطرقات الماضي السحيق.. او تجاعيد وجه ذلك العجوز في حيهم! كتبت وبكل حرقة تلك العبارة الخالدة التي طالما تمنت ان تكتبها.. احست براحة لم تشعر بها من قبل وان كل ما في قلبها قد خرج هذه الليلة.. تركت الورقة على الطاولة دون ان تغلق دفترها، دون ان تحرص على اخفائه عن العيون.. دون حتى ان تعيره أي اكتراث أو تضمه إلى صدرها كما السابق.. لقد انتهى كل شيء.. وماذا بعد ابتسامتي!!
|