توبة بعض المشائخ مؤخراً عن بعض فتاواهم التدميرية، واعترافهم بأنها كانت خاطئة، هو بلا شك أمرٌ محمود، رغم أنها جاءت كما يقولون في الوقت الضائع للأسف، وبعد أن ترتبَ على تلك الفتاوى من الدمار والخراب وسفك الدماء ما نعرفه جميعا. ولا شك أن التعدي على الفتوى، والقول على الله بغير علم، أصبحت هذه الأيام بضاعة من لا بضاعة له، وعمل من لا عمل له، وليت الأمر توقفَ عند صغار طلبة العلم الشرعي فحسب، وإنما أصبح أصحاب «الزراعة» العاطلون عن العمل يتجرأون على الفتوى، والفيزيائيون المفتئتون يفتون، والأطباء الفاشلون يُفتون، فقط ما عليك إلا أن تقصرَ ثوبك، وتطيلَ لحيتك، وتتسمى بالشيخ، وتظهر في إحدى القنوات الفضائية، لتكون مؤهلاً للفتوى والحديث في شؤون الحلال والحرام!.
هذه الظاهرة العبثية، وغير المسؤولة بكل المقاييس، يجبُ أن تتصدى لها الدولة ممثلة في هيئة كبار العلماء بكل حزم وقوة. فالفتوى من أعظم شؤون الإسلام التي تتعلق بها أمور الناس في دنياهم وآخرتهم، ويتوقفُ عليها في مجتمعاتنا انضباط «العقد الاجتماعي» بين السلطة والمواطنين، وقد ثبتَ الآن أنها قد تكون وسيلة انتهازية يُمارسها بعض الانتهازيين، والمعارضين، لتحقيق أغراض كيدية سياسية لا علاقة لها بالدين. جاء في الحديثة: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار». ويقولُ ابن أبي ليلى: «أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يُحدث بحديث، أو يسأل عن شيء، إلا وَدَ أخاه كفاه». وقد عُرضت على الإمام مالك 40 مسألة فأجاب على أربع منها وتوقفَ عن الافتاء في البقية. هكذا كان أسلافنا يتعاملون مع الفتوى، ولك ان تقارن بين «تنافس» بعض صغار طلاب العلم اليوم على إصدار «الفتاوى»، لتتضح لك مدى المأساة التي يعيشها الإنسان المسلم هذه الأيام وهو لا يدري إلى أين يتجه، وإلى لمن يستمع!.
لذلك فلا مناص بعد أن أوصلتنا بعض الفتاوى المتعجلة والمغرضة، وربما الجاهلة، إلى هذا المأزق الكارثي الذي نعيشه اليوم، من أن نعملَ على ضبط هذا الشأن الديني الهام كي لا تناله يد العابثين، وانتهازية الانتهازيين، وتلاعب السفهاء والجهلاء ممن لا يملكون أصلاً أهلية للفتوى، فضلاً عن أن يكونوا أهل علم وتقى وفضل. هذا الضبط يجبُ أن يقوم على إيجاد آلية شرعية من شأنها منع كل من ليسَ أهلاً للافتاء من إصدار أي فتاوى. ويجبُ أن يكون هذا الضبط صارماً بحيثُ إن كل من خرقه أو تجاوزه أو استهترَ به، يكون عرضة للعقاب الصارم.
وكان الإمام أبوحنيفة يقول بوجوب «الحجر» على المفتي المتلاعب بأحكام الشرع، لما لتلاعبه من أضرار قد يترتبُ عليها مضارٌ عظيمة على المجتمع المسلم. «يرى أبو حنيفة وجوب الحجر على ثلاثة: الطبيب الجاهل، والمفتي الماجن «المتلاعب» والمكاري «المقاول» المفلس دفعاً لضررهم عن الجماعة» نقلاً عن: «رد المحتار على الدر المختار» «حاشية ابن عابدين»، علاء الدين أمين بن عمر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 4/234. ولعل في ذلك غاية الحاجة إليها أمام هذه الفوضوية العبثية المتعلقة بالفتوى، خصوصاً بعد أن بلغ السيلُ الزبى، وأوصلتنا بعض الفتاوى إلى درجة إباحة الإرهاب.
|