أنت يا عيد!.. يا جمع شمل الأحبة..! أشرقت شمسك الوضية معلنة قدومك.. ليتجدد الأمل في النفوس ولتزداد تربة القلوب خصوبة فوق خصوبة، وأطلت أنجم سعدك على الوجود ضاحكة متلألئة تنشر البشر - بكسر الباء - وتداعب مخيلات العشاق والمحبين ومن عبثت بهم أشواقك وجلدوا أحاسيسهم وأغلقوا عليها في قلوبهم المهترئة لتطفر يوم قدومك وتعلن عن حبورهم وغبطتهم، ولقد أخذ الناس يثملون بأغانيهم ويزغردون باغاريد البهجة، بينما طفقت أمهم الشمس تمدهم بالدفء وتنير لهم الدروب والمنعطفات، كل ذلك ولسان حالهم يردد قول المتنبي:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد؟
|
سؤال أطلقه الشاعر العبقري منذ أمد بعيد وما يزال وسيزال يستبد بالنفوس التي تحار جوابا.. تلك النفوس الذاهلة المتعبة المضناة من المسيرة الشاقة الطويلة، مسيرةالحياة المليئة بالألم والسعادة معا، ذات التشعبات الغريبة والمنعطفات العديدة.
عيد بأية حال عدت علينا ونحن منكسي الرؤوس متمرغي الأنوف بثرى أرضنا المشبع بدم الشهداء الأبطال.. المثخن بدكات خيولهم وقرعات طبولهم وقعقعات سيوفهم.. المنصت الى أحداث الزمان المتغيرة المتبدلة الدائمة المفاجآت.. ولقد طوى هذا الثرى بين جنباته عظامهم وعروقهم وشرايينهم حتى تشكل من بقاياهم فأصبح يضج ببطولاتهم وعبقرياتهم، وما أعظم أبي العلاء حينما قال:
صاح خفف الوطء ما أظن
أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
سر ان اسطعت في الهواء رويدا
لا اختيالا على رفات العباد
وقبيح بنا وان قدم العهد
هو ان الآباء والأجداد
رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحك من تزاحم الأضداد
|
وهذا الثرى هو ثرى محمد «صلى الله عليه وسلم» ورفاقه الأبرار وثرى سعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وصلاح الدين.. و.. و.. وكثيرون هم الأبطال الذين شقوا الصخر بمعاول الايمان المتغلغل في نفوسهم والمتسرب الى أعماق أعماقهم.
أي يا عيد!.. ثلاث سنون من القحط مضت كضراوة الرعود، وأنت تجيئ والفرحة تتجدد تشفعها ابتسامة كسلى على الشفاه الحزينة المتشققة من كثرة الانطباق.. نعم انطبقت الشفاه وتشققت من كثرة الانطباق عندما ألم بنا ذلك الخطب الجلل والمصاب الأليم تلك النكبة التي ما زلنا نجتر أحداثها صباح مساء.. ولقد كان انعكاس آلامها على الشفاه قويا عظيما حتى آدماها وجعلها تبهت.
ان الطير يا عيد حن اليك، فهو مثلنا يطوى حنينه.. وقد براه الشوق الى الدفء الحنون من خلال معانيك بعد ان عصفت به الأيام، ويريد ان يستشرف الوجود ويستمد من عطائك الفياض.. عطاء المعاني والمبادئ والقيم.. عطاء الصفاء والمودة والاخلاص.. ليغرد ويشدو صادحا فوق الأفنان.. فأنت معطاء يا عيد، وعطاؤك يتجدد وينمو في النفس فيهذبها، أوليست الحياة الحقة كلها معان نبيلة ومشاعر سامية؟!.. فيالك يا عيد من معلم للانسان ومهذب للخلق الذي يسمو بصاحبه فوق السفاسف والترهات!.. حتى أن عظمتك تتمثل في سمو مراميك، فالغني يتذكر الفقير بزكاتك، والطفل يبهج لقدومك والصديق يلقى صديقه ويعانقه بعد فراق وجفوة، والأب يجتمع مع بنيه يلاطفهم ويلاطفونه ويحنو عليهم ويجلوه وكذا الأم يقبلها بنوها قبلات العرفان بالجميل. فتشعر بالفرحة والحبور.
في صلاتك يا عيد يقرأ الامام سورتي «سبح» و«الغاشية» فيرين صمت طويل على النفوس الخاشعة، ويرتفع الدعاء الى الله وتردد الابتهالات فتهتز جنبات المساجد من الأصوات المؤمنة التي تتعالى بافتخار:« الله أكبر! نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده».
فتشعر النفوس بالقوة من جديد وبالأمل الدافق.. وما يلبث الامام بعد الصلاة حتى يخطب الجموع المتدافعة الى الصلاة زمرا زمرا، ويذكر القدس الحبيبة فتبكي الجموع شيوخا وشبابا ونساء وأطفالا بدموع الحرقة والألم، لكأن صلاتك يا عيد تريد ان توقظ الضمير من غفوته وتحيي القلب من ميتته!.
عجبا يا عيد من مظاهرك العظيمة!.. وأواه يا عيد من البشر..! لا أقصد كل البشر بل أولئك الذين استغلوا معانيك السامية النبيلة لاغراضهم وأهوائهم الشخصية.. فعندالحرمين الشريفين وبينما الامام يستصرخ الضمير الانساني بنداء القدس للجهاد، يتبرج النساء ويلبسن أحلى ما عندهن ليبرزن فتنتهن عند أماكن العبادة والتضرع، وتزوغ أعين أصحاب النفوس الضعيفة، لكأنهم جاءوا ليشاهدوا عرض أزياء.. أي وربك يا عيد هكذا يفعلن ويفعلون!!..
وهذا ما يشوه قدسية مظاهرك وطهارتها، فأنت لم تأت بتلك المعاني إلا لتوقظ الضمير وليس لتميته وتئدة فيتمادى البشر الى أقصى حدود التمادي!..
أنت أهزوجة خالدة على مدى الأيام، يترنم بها الانسان ولا يمل، وأنت ترنيمة عذبة الألحان شجية المعاني تتردد على شفاه من استيقظ ضميره وصحا قلبه، أنت عظيم حتى في ختام أيامك السعيدة، فهي تنتهي كما بدأت بانتظام وتناسق بديع يسير فيها الناس من تلقائهم وفق نظام رسمته التقاليد والأعراف، فما أعجبك في نظامك الذي يسير عليه الناس الذين «اتفقوا على أن لا يتفقوا»!! وفوق هذا وذاك فأنت هبة من الله العلي القدير وهبها المسلمين ليجتمعوا وتتصافق قلوبهم ويلتئم شملهم فما أعظمك وما أبهج أيامك وأسعدها!..
|