أدى تسارع الأحداث وتدافع حلقات التطور والمواجهة مع معطيات العصر إلى تحول مفهوم السلفية عند البعض في العصر الحديث من منهج (العقيدة الصحيحة) المبنية على التسليم والتفويض وعدم التكلف إلى مذهبية ومنهجية جديدة تجدُّ في أمور الفقه والاجتهادات العملية الآلية التي تحكم متغيرات الفكر والعمل والحياة الاجتماعية والسياسة، وهذا لا يعني على وجه الحصر أن معارك تصفية العقائد المخالفة من شوائب التبديع والضلال توقفت،حيث لا تزال تزدحم بعض خطب المساجد والحوارات في قاعات المحاضرات ومواقع الإنترنت بحروب النصوص الشرعيةوالعبارات المتوارثة بين أحفاد الصراعات القديمة، لكن لا يمكن إغفال حقيقة أن إنشقاقاً حدث عندما غضت التيارات الجهادية الطرف عن بعض الخلافات العقدية، لكي تتوحد تحت شعارات سياسية مجابهة ومعادية للغرب ونظامه العالمي الجديد.
نتج عن هذا الانشقاق الجديد، انقسام المدرسة المؤسسة للسلفية الحديثة إلى مدارس فرعية لها مرجعيتها وطرق ترتيب نصوصها الشرعية، وقد تجلى ذلك منذ عقود في تصاعد عدد دراسات البحث والتنقيب الدائب والمتجدد في حياة السلف وأقوال العلماء الأقدمين، ثم الاستغراق في قياسات جزئية قد يلبِّي بعضها إيجابياً حاجات المسلمين في العصر الحاضر أو قد تسيء لمصالحه ومنافعه، بينما تراجعت مدارس أخرى على عقبيها منهزمة أمام الهجمة الحضارية الغربية، وموجهة هجماتها إلى الداخل، وذلك لفرض حالة من الحصار على الناس ضد تيارات التحديث والتطوير في كافة المستويات، ثم إتقان قدرات وعبارات تمكنهم من الهروب من الإجابة على الأسئلة الكبيرة والخطيرة التي تواجهها المجتمعات الإسلامية، ولا تكتفي بذلك ولكن تنظر بريبة وكراهية إلى كل اجتهاد يجد له مستنداً أو نصاُ في حياة السلف، يمهد خطوات تجاوز حالة الحصار..
لكن القضية الأهم في جذور هذا الانشقاق أو ذلك الأصل، هومنهج استدعاء النصوص الشرعية واقتطاعها من سياقها وأسباب نزولها لتبرير الواقع أو لدفع قضية سياسية سواء كانت إيجابية أو سلبية، لقد كان هذا المنهج أحد إشكاليات العصر الحديث الذي يتفجّر تباعاً منذ حرب الخليج الأولى، وهذه الإشكالية لاينظمها منهج واضح، فذلك المفتي أو المجتهد الذي اعتاد الأخذ بنصوص القتال والجهاد والتحريض على العمل بها، تجده في ساعة يتراجع مئة وثمانين درجة بعد ان شاهد حسب قوله هول عاقبة ما أفتى به، ..إنه يتحدث عن تجربة مفيدة!.. كنت أتمنَّى لو تحدث عن منهجه الذي أتبعه في البحث والتفتيش عن النصوص الشرعية،وكيف تغاضى عنها في موقف ثم عاد إليها في مواقف أخرى،.. منهج انتقائي أبتليت به الأمة منذ زمن ليس بالقصير..
تعلمنا من تلك المرجعية الضخمة من النصوص الشرعية والآراء المتوارثة أنها تختلف أحياناً، وتتضاد في أحيان أخرى، وقد لا يتوقف الأمر بين العلماء والساسة عند حد الاختلاف، فقد تتقاتل الجماعات والدول بسبب نصوص متضادة او تفسيرات مختلفة لنفس النص.. ألم يخرج القرّاء على بقية الصحابة حسب فهم محدد لآية كريمة، وألم يورد الإمام علي كرم الله وجهه بأن القرآن حمّال أوجه.. لقد كانت تلك الحادثة الخطوة الأولى في طريق تاريخ لا ينقطع من التأويل والتفسير لنصوص القرآن الكريم، وإشارة بدء لعصر جديد كتب خلاله العلماء صحاح الحديث الشريف تحت مظلة قانون صارم.. اسمه «الجرح والتعديل»..
لن يحل هذه الإشكالية المتجددة تراجع (مفتي)، إذ إن تراثنا السلفي يؤكد عمومية المرجعية، وحرية الإفتاء لطلبة العلم الشرعي، والمصطلح المشهور (لا رهبانية في الإسلام) يقف ضد تحديد مرجعية الفتوى أو منع الاجتهاد أو الفتوى من مصادر مستقلة، كما يحظى ذلك المتراجع عن فتاويه القتالية بالحماية من تلك المرجعية، فهو مجتهد.. يثاب إن أخطأ أو أصاب..، والمجتهد المفتي يتمتع بحق حرية التعبير مهما كانت خطورة فتاواه، والتي من المفترض أن تمثل شرع الله سبحانه وتعالى.. وهو ما يعني أن فتح باب الفتوى والاجتهاد على مصراعيه في ظل وجود مرجعية شاملة وزاخرة بالنصوص المتضادة أحياناً في اللفظ والتفسير، سيعيد استدعاء النصوص المشرّعة لظاهرة القتال والجهاد في الداخل، إذا رأى عالم آخر في مستقبل الأيام حاجة «الأمة» لتبرير خروجها أو قتالها في سبيل نصرة اجتهاده الشخصي أو موقفه السياسي..
وهو ما قد يعني أننا في أمسِّ الحاجة لإصلاح مؤسسي، نعيد من خلاله قراءة وضع المؤسسة الدينية أو مرجعية التشريع في العصر الحديث، واستبداله بمرجعية معنية بفقه الواقع والبحث في أسس مشكلاته عن الأحكام والحلول الملائمة في فقه النصوص والمأثورات، والاستعانة بخبراء في الثقافة الإنسانية وعلوم الإدارة لوضع الخطوط العريضة التي تهيىء لتأسيس دستور ينظم العلاقة بين الأفراد والدولة، وهذه ليست دعوة للتضييق على طلبة العلم الشرعي، لكن يجب أن تظل فتاواهم بمثابة الآراء الشخصية التي لا يجب أن تحمل في ثناياها دلالة من خالف هذا الرأي فقد ضل سواء السبيل..
الفقه عند الدكتور محمد عمارة في معناه الأول والأعم والأدق (هو: (الفهم والوعي). ولأن الإسلام دين الجماعة؛ ولأن شريعته -التي هي مرجعية الفقه الإسلامي- دين ودنيا، فقد كان الفقه الإسلامي أكثر من مجرد وعي بالأحكام، وأكبر من مجرد فهم للنصوص والمأثورات الدينية؛ إذ لا بد فيه مع فقه «الأحكام» من فقه «للواقع» الذي تتنزل عليه هذه الأحكام، ومن الوعي بمصالح الجماعة والأمة، ومن عقد القرآن بين فقه الأحكام وفقه الواقع، أي تنزيل الحكم على الواقع، تحقيقًا للمصالح الشرعية المعتبرة لأمة الإسلام وجماعة المسلمين)..
و«الشريعة الإسلامية»، ومطلق الدين إنما جاء هداية إلهية لتحقيق المصالح الشرعية المعتبرة، والسعادة الإنسانية في المعاش والمعاد، ثم البحث عما يحقق مصالح الجماعة، وفقه الواقع هو نقطة البدء والانطلاق المعتبرة في الشرع وفي استنباط الأحكام العملية، وفقه الأحكام هو السبيل لضبط المصالح بضابط «الاعتبار الشرعي»..
كم نحتاج لهذه الخطوة الضرورية والتأسيسية، فقد والله أذهلتنا مفاجع إراقة الدماء، وأدهشتنا قدرة النظر إليها كتجربة مفيدة أو نافعة عند البعض، والمهم حاليا هو فك إشكالية النصوص وعلاقتها بالقتال المسلح. وما لم يحدث وعي حقيقي يفرق الجهاد عن الجريمة فسوف تظل الانفجارات هاجساً لا يزول، وشرارة لا تنطفئ في المجتمعات الإسلامية، ومن خلال مراجعة بسيطة للأحداث الدموية خلال العقد الأخير، سنجد معظمها حدث داخل الأراضي الإسلامية، وانها تكاد تكون ظاهرة ملازمة للمتغيرات والتطورات في المجتمع العربي والمسلم ..
سنواجه صعوبات ومتاعب مهما سطَّرنا أبلغ الدساتير وسنّنا أكثر القوانين صرامة،.. مالم نتخلَّ بوعي عن تلك الانتقائية في استدعاء النصوص لتبرير قرارات سياسية أو أعمال إجرامية، وما لم ندرك على جميع المستويات النخبوية منها والشعبوية، وبمحض إرادتها خطورة ذلك المخزون الهائل من مواريث الانشقاق والأفكارالحادة والإستعدادات الذهنية لمقاومة تسارع حركة عجلة التطور والتغيير في مدخل الألفية الثالثة.
|