من الواضح الجلي لكل متأمل أن العولمة قد بدأت في عملية تحويل المجتمعات العربية الى مجتمعات تقدر قيمة المرونة، وسيعمل هذا مع مرور الزمن على نبذ
التعصب في الرأي، والتخلي عن التطرف في الدين أو اللجوء الى الارهاب لتحقيق المطالب، وهي أمور تطفو على طبيعة الحياة اليومية عند أغلب المجتمعات العربية. وهناك مؤشرات قوية على أن سياسات التربية والتعليم في الدول العربية - على اعتبار ان التربية والتعليم هي مصنع التحولات الفكرية من التصلب الى المرونة - قد بدأت تهتم بالتوافق مع متطلبات العصر، والتوازن مع نظيراتها في العالم المتقدم.
وعندما قلت أن الحصول على المعلومات وتبادل الأفكار والرؤى مع المجتمعات الأخرى وبالتالي اقناع رموز الاستكانة وحواجز الرهبة والجزع والوجل، هو البداية الصحيحة باتجاه التقدم الفكري الحقيقي فإنني أتمنى أن أحصل على حكم من القراء الأعزاء بأنني لم أجانب الصواب.. فعلى سبيل المثال: ألم يقفز الى مقدمة اهتمامات المجتمعات العربية اهتمامها بالاصلاح وتيسير التدفق للقيم والمنتجات والثقافات والمعلومات والأفكار والمخترعات، ومن المؤكد ان الاستجابة الكافية ستتيح لكل مواطن عربي تقريباً فرصة للتقدم المادي والفكري بشكل متوازن، وهذا التوازن سيتيح لكل الشعوب العربية وأنظمتها فرصة نادرة للتغير والتقدم والازدهار والاستقرار، كما أنه سيعالج حالة التناقض الوجداني لدى الشباب العربي، تلك الحالة التي وجدت بسبب تنازع الماضي والحاضر لهؤلاء الشباب - أقصد بالماضي ما لم يعد منه فائدة في هذا العصر - والحاضر الذي أتى به التقدم العلمي والتكنولوجي والثقافي وأتت به العولمة.
ثالثاً: في مجال الاتصالات والمعلومات
لم يعد هناك أمر إلا وهو متأثر بالاتصالات والمعلومات، وإذا رجعنا الى طبيعة التخلف العربي الذي أوضحنا جانبا منه عندما استعرضنا واقع العالم العربي قبل العولمة، فسنجد أن العولمة في مجال الاتصالات والمعلومات تحقق نتائج ايجابية مبهرة للمجتمعات العربية، فهذا الجانب ليس أمراً عاديا عند العربي كما هو الحال عند الغربي وسائر الدول المتقدمة.
فالغياب الذي عاشه كثير من العرب جعل للعولمة في هذا المجال نكهة خاصة، والنتائج الايجابية هنا لا تقدر بثمن، فقد تأكد دور المعلومات كوسيلة للارتقاء بمستوى المعيشة وانتشار الوعي بالكمبيوتر والمعلومات، وأتيح للعامة والخاصة معلومات على مستوى عال من الجودة.
وخلال مدة وجيزة من عمر العولمة قام الكمبيوتر بتسهيل العديد من المهام الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في حياة الانسان العربي اليومية بعد ان كانت ستستغرق زمنا طويلا جدا حتى تصل الى يد المواطن العادي فيما لو أن العولمة لم تكن قد أتت، وربما لم تكن لتصل بدونها، وعملت الاتصالات والمعلومات على تغذية نزعة العربي «كإنسان» للاطلاع على العالم الواسع والمجتمع الكبير، وستقوم المعلومات بتغذية الانسان العربي معرفيا ومن ثم دفعه نحو التطور والتغير والعلم التقني والدراية الاقتصادية والمالية، وستعمل المعلومات أيضا على اكسابه مستوى عيش جديد يحترم فيه الزمن والدقة والسرعة والجدية والمثابرة، ليس هذا فحسب بل ان الاتصالات والمعلومات هي من أقوى العوامل التي أدت الى تزايد اقتناع المجتمعات العربية بايجابيات العولمة وقدرتها على كسر الاحتكار لوسائل الاتصال والمعلومات، وهذا أوجد انخفاضا هائلا في رسوم تأسيس أرقام الاتصالات وكذلك تكلفة المكالمات الهاتفية والحصول على المعلومات وتبادلها بواسطة الانترنت كما أوضحت سلفا، وقد نجحت العولة بشكل مذهل في خفض أسعار الحاسبات الآلية وأجهزة الاتصال وأجهزة استقطاب البث الفضائي العادي والمشفر، وأصبح بمقدور الانسان العربي في المدينة والقرية والريف والصحراء وعلى قمم الجبال وفي أدغال الأودية أن يحصل على كل هذه الأجهزة بيسر وسهولة، وهل كان له ذلك قبل العولمة؟.. حقاً لقد بدأ الانسان العربي بفضل العولمة في محاولة عبور الحاجز المعرفي والمعلوماتي.
رابعاً - المجال السياسي
عمل القصور الاعلامي والمعلوماتي في معظم مجتمعات العالم الثالث على تغييب كثير من الحقائق داخل هذه المجتمعات عن المجتمعات والمنظمات والهيئات العالمية لسنوات طويلة، وقد كان للعولمة نتائج ايجابية في هذا الجانب على العالم العربي بخاصة وإن لم تكن السياسة من الأهداف الرئيسية للعولمة، فقد أدى بزوغ فجر العولمة الى انكشاف ما بداخل الدول العربية التي كانت الكثير من المعلومات عنها غير متاحة للآخرين، وبالتالي يمكن القول في هذا الصدد إن العولمة قدحت مشعل التغيير أو الاصلاح فبدأ التحول من المركزية الى توزيع السلطات يأخذ مجراه في العالم العربي وإن كان ذلك بطيئاً وجزئياً، وقد ظهر في الأفق بارقة أمل حقيقية بأن هناك شعوراً واهتماماً اجتماعياً عالمياً بدأ يتشكل تجاه قضايا كانت تعد ضمن السيادة والخصوصية الدينية والسياسية والثقافية للدول العربية، الأمر الذي استتبع اهتمام ومراعاة معظم الحكومات العربية لهذا الشعور والاهتمام العالمي عندما تتصرف في مواجهة مواطنيها إزاء القضايا السياسية والحريات الأساسية بخاصة وحقوق الانسان بعامة.
لقد ظهرت نظريات وترددت مقولات كثيرة عن أسباب الارهاب في الوطن العربي، كان من أقواها قول وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في كلمته التي ألقاها في المنتدى الاقتصادي الأمريكي العربي الأخير، حيث أوضح أنه من دون تحول جوهري في الشرق الأوسط فإن هذه المنطقة ستظل مصدراً للعنف والارهاب تغذيه حالة الاحباط والقهر واليأس.. وبصرف النظر عن مدى مطابقة هذا الرأي على واقع الحال من عدمه فهل تحدث معجزة ويخرج سياسي غربي آخر ليقول إن ممارسات بعض الحكومات والمفكرين الغربيين هي التي صنعت، الى حد كبير، منابع هذا الإحباط؟.
إنه على الرغم من بواعث الإحباط هذا، ومظاهر الازدواجية الغربية فإن لدي قناعة بأن العولمة ستعمل على ايضاح حالة البؤس والتخلف الذي يلف الأمة العربية، تلك الحالة التي اشتركت في خلقها حكومات غربية متعاقبة، وعندما تتضح هذه الحالة بشكل جلي فسيزداد ضغط الشعوب الغربية على حكوماتها للتخلي عن ممارساتها اللاإنسانية ضد دهماء الشعوب العربية.. ومثلما تقوم العولمة بتثقيف المجتمعات العربية حول الحوار وتبادل الآراء وكيفية التخلي عن مبدأ تصفية الخصم لمجرد الاختلاف معه في الرأي، فإنها تعد المجتمعات العربية لمرحلة قادمة تتحمل فيها مسؤولية أكبر عن ادارة شؤونها بنفسها عندما يخفف الغرب من عمليات قسر الدول العربية على خدمة سياساته وأهدافه الاستعمارية، والعولمة كذلك ستنقل الى العرب، عبر تقنية المعلومات والبث الفضائي، الأساليب الحضارية لحياة المجتمعات الغربية، ومن ثم تتشرب مجتمعاتنا ما يصلح لها من هذه الأساليب، والانفتاح على الشعوب وتفهم عاداتها وتقاليدها وطرائق حياتها الحسنة مع استعادة ما هو غير ملائم منها.
يعلمنا التاريخ أن مجتمعات كانت تعاني من التخلف بدرجة أقل مما تعانيه المجتمعات العربية لم تستطع الاصلاح والتغيير والانتظام في السير على الطريق الذي يعد الطريق والاتجاه الأفضل اليوم إلا بعد كوارث وويلات، لكنني لا أبالغ ولا أذهب بعيداً إذا قلت أن المجتمعات العربية تستطيع تجاوز مرحلة الكوارث والويلات، إذا استفادت من العولمة وما توفره من وسائل وامكانات، بمعنى أنه إذا كانت العولمة قد اتخذت من ثورة التكنولوجيا والمعلومات حصانا لها فإن العرب يستطيعون اتخاذ العولمة حصانا لهم، وهي بلاشك ستمكنهم من اللحاق بالقافلة التي تتسارع كل يوم.
من المهم أن يدرك العرب أن العولمة هي الفرصة الأفضل للتعريف بأمتنا وبقضايانا لدى المجتمعات الغربية، ومن ثم السعي لاقناع تلك المجتمعات بعدالة التخلي عن نظرتها وتطبيقاتها العنصرية لمفاهيم الحرية والعدل والمساواة، وسيساعدنا في هذه المهمة ان العولمة ترفض التمييز وتحاربه، وهذا ما يغضب الولايات المتحدة الأمريكية واسرائيل على وجه التحديد، لأن التمييز العنصري سلاحهما ضد العرب والمسلمين، والعولمة كذلك هي الفرصة الوحيدة أمام العرب، شعوبا وحكومات، لجسر الهوة بينهم وبين باقي المجتمعات الانسانية قاطبة. وحق لمن يتساءل من العرب عن مبررات تفاؤلي وأملي بفرص الاستفادة من العولمة في وقت يبدو لهم فيه أن الاحتكار الأناني الغربي لتطبيقات حقوق الانسان والحرية والعدل والمساواة يتفاقم يوما بعد يوم، وأن الممارسات الغربية تجاه العرب تدل على انهيار الضمير الغربي وانحدار القيمة الكلية للانسان الآخر عندهم، ويبدو لهم فيه أيضا ان امكانية الاصلاح في الوطن العربي باتت مستحيلة دون حدوث كوارث وهزات عنيفة وقد أوصدت الأبواب وتجمدت معظم العقول عن التفكير البناء فيما تحتاجه الشعوب العربية، واستحكمت حلقات الأنانية والاستبداد والتخلف.. لكنني أرجو ممن تقلقه هذه الأسئلة أن يعالج إحباطه بالأمل، وأن يتذكر أن الخير أصل في الانسان، ومن هنا فإن ضمير المجتمعات الغربية التي أبدعت روائع مبهرة في الفكر والعلم والتكنولوجيا والفنون والآداب والنظم والقوانين وحقوق الانسان لا بد أن يصحو، وينطلق عنصر الخير الموجود فيه ليكتشف أنه ظلم العرب ردحاً من الزمن.. عندها تلتقي أعيننا في النظر الى مستقبل أفضل لنا ولهم، ويزداد تجانس وتطابق مصالحنا وآمالنا وطموحاتنا في عالم ينتظمه العدل ويظلله السلام، ومما يجعلني في هذه الفسحة من الأمل هو قناعتي بأن الممارسات الغربية السيئة تجاه العرب ليست اتجاها اجتماعيا غربيا عاما وإنما ممارسات فردية لبعض العناصر في الحكومات الغربية المتعاقبة وبعض رواد الثقافة وأرباب المال ومشعلي الحروب ممن يعانون من اعتلال في تفكيرهم وضمائرهم وأخلاقهم ومفاهيمهم وانسانيتهم بعامة. أما المجتمعات العربية فإن من مبررات أملي في قدرة العولمة على تغييرها بسرعة وهدوء رغم الصعوبات، وقدرة العرب على التفاعل معها بكفاءة والوفاء بمتطلباتها، إذا اتخذت القرارات بذلك، ما يأتي:
1- فتحت العولمة أبواباً جديدة أمام المجتمعات العربية لاستقبال رياح التطور الحضاري.
2- استطاعت العولمة أن توصل المعلومات وبعض مظاهر التطور الحضاري الى جميع أرجاء الوطن العربي.
3- عملت العولمة على تسريع عملية تشرب المجتمعات العربية وانفتاحها على الشعوب وتفهم العادات والتقاليد الحسنة في المجتمعات الأخرى.
4- ساعدت العولمة على نقل الخبرات السياسية والادارية والتنظيمية الى المجتمعات العربية.
5- طرحت العولمة أمام المجتمعات العربية مشروعاً ثقافياً وحياتياً يتوافق مع التقنيات الحديثة، من شأنه التغلب على العادات والتقاليد العاجزة عن مسايرة الزمن، كما ان العولمة ستجعل العرب يفكرون بجدية في التخلي عن كثير من قناعاتهم الخاطئة وأحكامهم المسبقة.
6- عملت تقنيات العولمة في وقت وجيز، على خدمة الانسان العربي وتحسين أوضاعه في جوانب كثيرة من حياته، من أهمها توظيف تقنية المعلومات والبث الفضائي للاطلاع على العالم، والحوار مع الغير، وزيارة أماكن حضارية ومكتبات ومراكز علمية، وقراءة كتب وانتاج علمي وثقافي، ولابد أن ذلك قد أحدث تغييراً ما الى الأفضل في الفكر والشخصية العربية، وسيتضاعف هذا التغيير مع الزمن ويزداد بازدياد التعامل والتفاعل مع العولمة.
إنني لا أحاول إقناع أحد أن العولمة تحمل عصا سحرية تستطيع بها تغيير ما عجزت مئات السنين عن تغييره في العقلية العربية..أقصد أنها لن تغير بصورة تلقائية لا كوارث فيها دون تضحيات هي بالضرورة أقل مما ستسببه الكوارث من خسائر لو حدثت، ودون تجاوب وتفاعل الانسان العربي معها، فالانسان هو هدفها الرئيسي، لكنني أقول صادقاً: إنها تحمل القدرة لمقاومة مَنْ يسير عكس اتجاهها.
|