Thursday 27th november,200311382العددالخميس 3 ,شوال 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

شرعية نظامي الاستخبارات والمباحث في الإسلام شرعية نظامي الاستخبارات والمباحث في الإسلام
عبدالله بن ثاني*

يطلق الأمن على مجموعة الاجراءات الأمنية التي تتخذ لحفظ أسرار الدولة وتأمين أفرادها ومنشآتها ومصالحها الحيوية في الداخل والخارج. وأما الاستخبارات فهي مجموعة الخطط المدروسة لاستخدام كل الوسائل التي تساعد في الحصول على المعلومات وترتيبها لامداد المسؤولين بالحقائق في الوقت المناسب لوضع استراتيجية الدولة في اتخاذ قرارات تكفل أمنها القومي في الداخل والخارج أيضا.
وبما ان الاسلام أكد على حفظ الضرورات الخمس وهذا لا يتأتى إلا بوعي أفراد المجتمع الذين يدركون ان الأمن مسؤولية الجميع، وليس عملا تخصصياً ضيقاً مقصوراً على أجهزة محددة وأفراد محدودين ليشعر المواطن بالطمأنينة والهدوء والقدرة على مواجهة الأحداث والطوارئ دون اضطراب في ظل حياة مستقرة بلا خوف وظلم، وعدم التثبت واتباع الظن والاستغلال الشخصي لهذين الجهازين الاسلاميين، يفسد الحكمة من مشروعيتها، ولذلك وقف الاسلام موقفا قويا من حرمة ذلك، وهذا يؤكده ما رواه ابن هشام عن ابن اسحاق في غزوة بني المصطلق «فغضب عبدالله بن أبي سلول، وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حدث فقال: أو قد فعلوها قد نافرونا، وكاثرونا في بلادنا، والله ما عدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول سمن كلبك يأكلك. أما والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عنهم بأيديكم لتحولوا الى غير دياركم، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره ليدل على مشروعية الأخبار بما يخطط للدولة المسلمة والتأكيد على أن المواطن هو رجل الأمن الأول.
وقبل ان يبني النبي صلى الله عليه وسلم على قول زيد حكماً وقراراً خشية أن يكون من باب الشكاوي الكيدية، قال له: يا غلام لعلك غضبت عليه؟ قال لا والله لقد سمعت منه، قال لعله أخطأ سمعك قال لا يا نبي الله، قال: فلعله شبه عليك قال: لا والله لقد سمعت منه يا رسول الله ليؤكد المصطفى أهمية التثبت في نقل الأخبار والتأكد من سلامة البلاغ والتقرير كما أرسل سيدنا بريدة بن الحصين ليتأكد من خبر بني المصطلق «الطبقات الكبرى لابن سعد» وأيضا تثبت من نقض بني قريظة للعهد «السيرة النبوية لابن هشام».
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية الأمن وهو الهدف الأسمى لهذين الجهازين في حديث جامع «من بات آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» ومما يستدل به على ربط الرزق والاطمئنان بتوافر الأمن في المجتمع، قوله تعالى على لسان ابراهيم عليه السلام { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }. (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)الّذٌي أّطًعّمّهٍم مٌَن جٍوعُ وّآمّنّهٍم مٌَنً خّوًفُ}، { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.
ولذلك يحرم شرعاً استغلال هذه الصلاحيات من قبل بعض الأفراد استغلالاً يخرج عن تحقيق هذه الأهداف الأمنية سواء أثناء التحقيق أو كتابة التقارير والبلاغات في صورة لا تتفق مع كرامة الانسان التي حفظها الاسلام.
فمنع الاسلام تتبع عورات المسلمين وكشفها قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا } وقال صلى الله عليه وسلم:«إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تنافسوا» ومنع التجسس لصالح الأعداء حتى لا تقوى شوكتهم ضد المسلمين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ولا يعني وجود بعض الأخطاء الفردية من الذين ينتسبون اليهما كل هذه التشويه وكل هذا الطعن لأن الخطأ قد يقع في غير هذا الأجهزة كالقضاء والحسبة مثلا دون مصادرة لشرعيتها وأهميتها في حياة الانسان وتحقيق الأمن والأبدان والأوطان.
بل ان ذلك يعطي الآخر فرصة للتشويه والطعن في شرعية الجهازين اللذين أسسا على مبادئ اسلامية تقر شرعية متابعة الأفراد لمعرفة طاقاتهم وقدراتهم لاختيار القوي الأمين والبعد عن الضعيف والخائن وشرعية متابعة العمال والموظفين والمسؤولين كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه في مناقب عمر لابن الجوزي:«أرأيتم لو وليتم عليكم أتقاكم وأورعكم، هل وفيتكم حقكم، قالوا قد وفيت وأجزيت، قال لا: حتى أنظر أعمل بما علمت فيه أم لا؟».
وكما قال سيدنا علي بن أبي طالب لمالك بن الأشتر، «وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوه لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية وتحفظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده الى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة».
وأقر أيضا شرعية متابعة المجرمين ودعاة الضلالة لاتقاء شرهم وكشف زيفهم والتحذير من بدعتهم وضلالتهم حماية للمجتمع من خطرهم، قال الإمام الجويني «صبح الأعشى 1/114» إن نبغ في الناس داع الى الضلالة، وغلب على الظن لا ينكف عن دعوته ونشر غائلته فالوجه أن يمنعه وينهاه ويتوعده لوحاد عن ارتسام أمره وأباه، فلعله ينزجر وعساه، ثم يوكل به موثوقاً به من حيث لا يشعر به ويرشح مجهولين يجلسون اليه على هيئات متفاوتات يعتزون الى مذهبه ويسترشدونه ويتدرجون الى التعليم والتلقي منه، فإن أبدى شيئا أطلعوا السلطان عليه فيسارع الى تأديبه والتنكيل به».
وأقر مشروعية التجسس على الأعداء من أجل رصد حركاتهم وكشف مخططاتهم، وقد كان للرسول صلى الله عليه وسلم عين في قريش وهو عمه العباس رضي الله عنه كما ورد في الطبقات الكبرى لابن سعد، وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم من المهاجرين تحت إمرة عبدالله بن جحش للقيام بواجبات تتعلق بجمع المعلومات وحمل الأمير رسالة وأمره ألا يفتحها إلا بعد مسيرة يومين فلما فتحها وجد بمضمونها «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بين مكة والطائف فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم» والرصد هو المراقبة والمتابعة من قبل أفراد السرية وجمع المعلومات.
وأما الحكم الشرعي فيمكن لنا أن نتأمله من خلال النصوص التي أمرت المسلمين بأخذ الحذر واليقظة، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} وقال تعالى {وّفٌيكٍمً سّمَّاعٍونّ لّهٍمً} وقال تعالى {سّمَّاعٍونّ لٌقّوًمُ آخّرٌينّ } اشارة الى وجود عيون في المجتمع المسلم ولا يمكن كشفهم إلا بالبحث والتحري والتتبع والمراقبة من قبل الجهاز الأمني الاسلامي، قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى:« أي عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها اليهم» وقال الشوكاني عن الآية الثانية، أي سماعون لأجل قوم آخرين وجهوهم عيونا لهم لأجل أن يبلغوهم ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وأما الأدلة من السنة النبوية فكثيرة ابتداء مما كان يطلع عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم من تقارير في مرحلة الدعوة السرية في دار الأرقم بن أبي الأرقم ثم تطورت المخابرات النبوية تطورا يتمثل في الاتفاق المسبق على زمان ومكان بيعة العقبة في أوسط أيام التشريق في الشعب عند العقبة ليلاً وأمر الأنصار بكتمان الأمر عن المشركين والحضور فرادى، قال ابن الجوزي في الوفا بأحوال المصطفى «حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين تسلل القطا» أي أفراداً، ثم تأتي الهجرة من مكة الى المدينة وقد تفوقت في اتمامها المخابرات الاسلامية على مخابرات قريش، بل انه استعان بعبد الله بن أريقط وهو كافر ليمثل مصدرا بشرياً للمعلومة التي يحرص عليها المسلم من أي جهة وتبدأ بعدها مرحلة الفترة المدنية وما يتطلبه الأمن الداخلي للمسلمين في كشف مخططات الطابور الخامس «المنافقين»، ومن أبرز الأعمال مهمة اختطاف وفك أسر عياش وهشام رضي الله عنهما على يد الوليد بن الوليد رضي الله عنه كما في السيرة النبوية لابن هشام 1/476 ثم اغتيال كعب بن الأشرف الذي هجا الرسول صلى الله عليه وسلم وشبب بنساء المؤمنين على يد سرية بقيادة محمد بن سلمة رضي الله عنهم ومهمة اغتيال خالد بن سفيان والهذلي في عرنه على يد سيدنا عبدالله بن أنيس رضي الله عنه «انظر البداية والنهاية لابن كثير 4/142» ومهمة اغتيال سلام بن الحقيق اليهودي بخيبر على يد سرية بقيادة سيدنا عبدالله بن عتيك رضي الله عنه «أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار» ومهمة خوات بن جبير رضي الله عنه في الحصول على معلومات عن بني قريظة «المغازي للواقدي 2/460» ومهمة نعيم بن مسعود رضي الله عنه في تخذيل الأحزاب (المغازي للواقدي 2/480) ومهمة حذيفة بن اليمان رضي الله عنه للتأكد من مغادرة الأحزاب «السيرة النبوية 2/232»، ولم يقتصر الأمر على التكليف الحربي، بل أمر المصطفى العيون والأرصاد في المدينة ان يجمعوا المعلومات من خلال المتابعة الدقيقة للمجتمع المدني ورصد الحركات الداخلية والخارجية فيه فاختار حذيفة بن اليمان العبسي ليأتيه بأخبار المنافقين ونواياهم، وتجاوز الاهتمام الى المناطق الأخرى، إذ كلف عمه العباس رضي الله عنه بجمع المعلومات في مكة، ومن نتائج عمله أنه أخبر المصطفى بعزم المشركين على غزو المدينة في معركة أحد وكلف عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عنه بجمع المعلومات في هوازن، وحسيل بن نويرة رضي الله عنه في ما يقع عليه من معلومات في القبائل المتفرقة، وكان له أيضا عيون في بلاد فارس والروم.
وأما الأدلة من فعل الصحابة والخلفاء فقد أوصى سيدنا عمر بن الخطاب سيدنا سعد بن أبي وقاص في القادسية قائلاً:«وإذا وطئت أدنى أرض العدو فابعث العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم، وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض ممن تطمئن الى نصحه وصدقه فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدق في بعضه والفاسق عين عليك وليس عيناً لك، وليكن منك عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع، وهذا ما أكده علماء الأمة، إذ نقل البوطي اجماع الأئمة على شرعية ذلك حفاظاً على هيبة الدولة المسلمة وأمن المجتمع قال أبويوسف في كتاب الخراج 190 «ينبغي للإمام أن يكون له مسالح «حرس» على المواضع التي تنفذ الى بلاد أهل الشرك من الطرق فيفتشون من مربهم من التجار، فمن وجه معه سلاح أخذ منه ورد، ومن كان معه كتب قرئت فما كان من خبر من أخبار المسلمين قد كتب به أخذ الذي أصيب معه الكتاب وبعث به الى الإمام ليرى فيه رأيه».
ومن الأدلة أيضا حديث العلماء ـ رحمهم الله ـ عن الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن ينتسب الى هذين الجهازين واقرارهم لما يقومون به، وليس المقام مقام تفصيل فيهما وإنما أذكر ما قاله شيخ الاسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ «فلهذا يجب على كل ولي أمر أن يستعين بأهل الصدق والعدل وإذ تعذر ذلك استعان بالأمثل فالأمثل وإن كان فيه كذب وظلم فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا أخلاق لهم»، وقال النويري في صبح الأعشى 1/123 أن يكون كثير الدهاء والحيل والخديعة، ليتوصل بدهائه الى كل موصل، ويدخل بحيله في كل مدخل ويدرك مقصده من أي طريق أمكنه فإنه متى كان قاصراً في هذا الباب أوشك أن يقع ظفر العدو به أو يعود صفر اليدين من طلبته».
وما ذكرته من كلام مختصر وأدلة قليلة تتناسب مع مقال في صحيفة ان رجل الأمن في بلادنا على ثغر من ثغور الاسلام، لأنه يساعد على تطبيق الشرع الذي لا يمكن تطبيقه إلا على أرض آمنة ومستقرة، فجزاه الله عنا خير الجزاء وجعل ذلك سبيلا يبلغ به الفردوس الأعلى.
والله من وراء القصد.

* الإمارات العربية المتحدة

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved