* بغداد - د. حميد عبد الله:
بين جعفر العسكري (أول وزير دفاع في تاريخ الدولة العراقية الحديثة) والفريق الركن سلطان هاشم أحمد آخر وزير دفاع في العراق المستقل تعاقب عشرات الوزراء ليشغلوا كرسي وزير الدفاع ولعل أبرز من بقي منهم في الذاكرة هما نوري السعيد رئيس الوزراء المزمن الذي احتفظ لنفسه بحقيبة الدفاع في معظم الوزارات التي ترأسها، وعبد الكريم قاسم الذي طغت شخصية الضابط على السياسي في سلوكه فاحتفظ بمنصب وزير الدفاع طيلة فترة حكمه البالغة خمس سنوات إلا خمسة أشهر.
وظل المبنى العريق لوزارة الدفاع العراقية الذي شيِّد في العهد العثماني وقارب عمره الآن قرنا من الزمان ظل حلما يراود الضباط العراقيين الذين يحلمون بمناصب تقودهم إلى سدة الحكم، فوزارة الدفاع هي المفتاح السحري الذي يفتح أبواب المستقبل السياسي أمام الحالمين بالسلطة والنفوذ في بلدان العالم الثالث ومنها العراق طبعا.
في ساحة الميدان يقع مقر وزارة الدفاع العراقية وتمتد بعض أبنيته إلى العمق في نهر دجلة، وينتصب في بوابتها مدفعان يعودان إلى العهد العثماني ظلا شامخين في كل الأزمان والعهود.
كان لهذا المبنى هيبة خاصة تتناسب مع تاريخه المعمد بالمواقف والأحداث الكبيرة، وقد اغتيل المبنى أربع مرات في تاريخ العراق مرة عندما اقتحمه البعثيون ليقتادوا عبد الكريم قاسم إلى أحد استوديوهات الإذاعة لينفذوا فيه حكم الإعدام بعد معركة ضارية قصفت خلالها وزارة الدفاع بالطائرات والدبابات، ثم اغتيل المبنى من قبل القوات الامريكية ثلاث مرات هي على التوالي في الأعوام 1991 و1998 و2003 فما هو المصير الذي انتهت إليه وزارة الدفاع العراقية؟!
مأوى للغجر
في أعقاب سقوط بغداد تحولت الكثير من دوائر الدولي إلى مجمعات سكنية حيث احتلتها عوائل مدقعة لتحولها إلى بيوت آمنة من غير رقيب أو حسيب وقد بلغ عدد العوائل التي احتلت وزارة الدفاع (135) عائلة كما أخبرنا أيوب يوسف أحد أفراد الحرس المكلفين بحماية الوزارة.
الحراس عملوا جردا بأسماء تلك العوائل اعتمادا على البطاقة التموينية، بعض هذه العوائل لديها تأييد من مجالس شيوخ العشائر أو من المكتب الأمني المعين من قبل مكتب الشهيد الصدر هذا بالنسبة لأهالي مدينة الصدر، وهناك بحدود (60 70) عائلة لا تمتلك البطاقة التموينية بحجة تلفها أو فقدانها وهو أمر مشكوك به بالنسبة لأفراد الحرس.. كما أن هناك بعض العوائل جاءت مهجرة من محافظاتها أما بسبب مشاكل عشائرية أو بحثا عن الرزق واستقرت في البناية فهناك عوائل من النجف وكربلاء والحلة وديالي وبالإضافة إلى الغجر الذين جاؤوا من الكمالية وأبي غريب بعد طردهم منها حيث استقروا في هذا المكان وأيضا في معسكر الرشيد وبعض الأماكن الأخرى.
رقص وغناء
في قسم الحركات العسكرية:
العوائل توزعت على بناية الوزارة بالاعتماد على صلة القربى فكل ثلاث أو أربع عوائل استولت على بناية من بنايات الوزارة، أما الغجر فقد فضلوا الابتعاد عن العوائل والانزواء في بعض البنايات ورغم ذلك فانهم لم يتخلوا عن طقوسهم المعتادة، فما زال الطرب سيد الموقف عندها وإلى ساعات متأخرة من الليل، بالتأكيد فان هذه الأجواء (الساحرة) جذبت أعداد كبيرة من الشباب من أبناء العوائل القريبة من الغجر.. وقد حدثنا مرافقنا أحمد موحي وهو من الحرس بأن هؤلاء الغجر احيوا هنا عدداً من حفلات الزواج لتلك العوائل.
الوزارة عموما لم تسلم من السرقات أسهمت فيها بعض العوائل الموجودة وقد ألقت الشرطة القبض عليهم وهددتهم بالطرد إذا حاولوا استغلال وجودهم لسرقة الوزارة إلى أن تتم السيطرة على الموقف حسبما يؤكد الحرس.
طلبنا من مرافقنا أن يصطحبنا حيث مكتب وزير الدفاع فوجدناه مكتبا يوحي مظهره بالكثير من الفخامة رغم تعرضه للسلب والنهب حيث لم يبق اللصوص عليه شيئاً حتى (الكاشي والمرمر) اقتلعوه عنوة مع الأسلاك الكهربائية ومفاتيح الكهرباء حيث غادرت جميعها أماكنها، سكنت في مكتب الوزير أربع عوائل وهم متزوجون مع والدتهم المسنة وجميعهم عاطلون عن العمل ما عدا واحد يبيع الثلج.. فتساءلنا مع أنفسنا كيف يعيش البقية ولاسيما انهم متزوجون ولهم أطفال فاقتنعنا بان عملية السرقة مازالت متواصلة رغم الحراسة المتشددة (كما يقول الحرس) على الوزارة بأكملها خاصة وان تصميم البناية هيأ لها عدة منافذ إلى الخارج وبإمكان أي عائلة وتحت جنح الليل أن تسرق ما تشاء من الأثاث المتبقي أو مواد رغم أن 90 % قد نهبت.
سجلات الجيش
أخبرنا مرافقنا أن ثمة سجلات كثيرة خاصة بأفراد الجيش العراقي موجودة في إحدى البنايات التي نالها الدمار وحاول إرشادنا عبر بناية تسكنها إحدى العوائل حيث استقبلتنا امرأة شابة اقتادتنا عبر الممر الذي يوصلنا إلى البناية حيث تحوي السجلات، وقد وجدت نهايته قد أغلقت بمناضد من حديد ودواليب بحيث تمنع المرور من خلالها وقد بررت السيدة ذلك بان زوجها يعمل من الصباح حتى المساء في ورشة وخوفا على زوجته من اللصوص سد كل المنافذ المفتوحة.. فاضطررنا إلى العودة والاتجاه صوب البناية ولكن عبر أنقاض عالية تقع البناية التي قصدناها أمام جسر باب المعظم المقابل لمدينة الطب، وبعد أن اجتزنا الأنقاض بصعوبة نزلنا إلى ممر طويل يقع عليه عدد من الغرف، وقد امتلأت بعشرات الآلاف من الأضابير الخاصة بالضبط والمراتب من العراقيين وقد سرق اللصوص كل أثاث هذه الغرف وترك سجلاتها وأوراقها قد تناثرت في الممرات والغرف. يقول الشرطي أحمد موحي إنه استطاع مع زملائه جمع أعداد كبيرة من هذه الأضابير استفاد منها عدد كبير من نواب الضباط الذين كانوا يراجعون للحصول على تسلسل آخر راتب تسلموه كما راجعهم عدد من عوائل الأسرى والشهداء كما استعانت بهذه الأضابير حركة الضباط الأحرار ودائرة الحسابات العسكرية والمديرية التي يوجد مقرها في شارع الزيتون.
هكذا تحول تاريخ كامل لوزارة الدفاع إلى أنقاض وربما إلى اندثار بالكامل إذا لم ينتبه المعنيون سريعاً لإنقاذ هذه البناية الرمز ...
|