لا حاجة إلى التأكيد على أن سمات الديموقراطية والمجتمع المدني هي حجر زاوية أساس في البناء المعرفي التراكمي لفكرنا وثقافتنا المتوارثة منذ بتنا أمة رسالة وحضارة وثقافة تمدن وارتقاء.
فلنا قدوة في وثيقة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في بدء قيام الكيان السياسي في أرض العرب بقيادة إمام دعوة التوحيد محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
لقد جاء النبي من وسط اجتماعي سياسي مضطرب في التوجه والاتجاه بسبب غياب ثقافة الربط بالإله، رغم تواجد بعض من بقايا أهل الكتاب في مكة ويثرب ونجران وصنعاء وأرض مدين.
لقد كان مجيء النبي الرسول ثورة على عناصر التخلف الحضاري واللغط السياسي في البحث عن ملك للعرب كان هو من الرهانات التي سيقت لمساومة الرسول للتخلي عن الرسالة التي صدع بها وفق الوحي الإلهي في وسط العرب داعيا إلى اتباع ملة التوحيد لله وفق ما كان أبو الأنبياء عليهم السلام «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر» كانت الشورى هي ديدن الرسول القائد سواء في السلم أو ضده، فما كان من أمر الله ورسوله أم منزل أنزله الله لرسوله، فلا مشاحة في التسليم، إما ما كان من الحرب والمكيدة فالرأي قبل شجاعة الشجعان.
وهكذا سارت وصارت الأمة في توالي قيادتها وتتابع ما ألم بها من النوازل على مر العصور لا تستغني عن مرجعية الأداء بالاقتداء والافتداء فهذا هو المنهج التدريبي السليم، لتفادي عوار تصادم الرؤى بالاجتهادات وما رافقها من تحزب ونحل تمادت، إما بالقطيعة مع مرجعية الاهتداء والاقتداء أو تجانفت بالقول، سياسة لا كياسة كثيرة فيها.
والله يأبى إلا أن يتم نوره، فيهدي لنوره من عباده من يشاء، فتقوم رجالات بتجديد وتطوير آليات الفهم للفقه والاجتهاد.
هذا استفتاح مهم للدخول إلى ما استقر عليه الحال في الوطن الكيان المملكة العربية السعودية، التي توحدت غالبية مساحة شبه الجزيرة العربية في كيان سياسي واحد لم الشتات والتشرذم واغلق سياسات الانفصال والتخلف، كان هذا ثورة على جل مصادر التخلف التي رانت على الموقع منذ نزوح الخلافة من ارض الحرمين إلى الشام والعراق ومصر والأندلس، وهنا فان أهم وأعلى واغلى القيم والمثل الاجتماعية التي باتت في فكر الأجيال المتعاقبة في هذا الوطن، هو الحفاظ على هذا الكيان وغض الطرف عن أي أخطاء، مهما كانت موجعة في سبيل البقاء، وطنا موحدا، ليس فقط في الحيز الجغرافي بل في الحيز العالمي الأوسع في أمان عباد الله المسلمين، الذين يستقبلون أرضنا في الصلاة والتوجه العقدي، كون أرضنا هي ارض الوحي والرسالة، بل والمنبت للأصل والمحتد العروبي مهما تباينت الأديان.
لقد قام الكيان السياسي الوطن الذي نستظل تحت سمائه منذ مائة عام، على مبادئ من التضحية بالدم والأرواح والأموال والفكر الديمقراطي الشوروى.
لقد كان البدء بالقرار الشعبي من أهل الحل والعقد والمسؤولية الفكرية والاجتماعية، في اختيار اسم الوطن. الدولة ووثيقة تأكيد هذا كتبت في المدينة لمنورة ونزل الملك القائد للناس ضد التشرذم والانفصال، على الرأي الشعبي، وتبدلت مملكة نجد والحجاز، لتصبح المملكة العربية السعودية «سعود فأل وسعادة مآل، لا نسب عصبية أو استغفال»، وتوالى بعد ذلك قيام مؤسسات الدولة الدستورية، حين ركن الملك القائد الموحد جوار الحرم يستقبل ويقبل طروحات وآراء النخب الفكرية، التي كانت قريبة من ساحات النضال باسم الأمة ضد التتريك والاستعمار، فكان في هذا الركون مدة ربع قرن الامر الذي حول بسرعة هائلة جهود الثوار عن الانعزال وقائدهم رحمهم الله جميعا، إلى مجتمع مدني كان قوامه الاستثمار في التعليم أولا بجلب أطفال إلى مكة للتعلم ونشر المدارس من بقاياهم اليوم أجداد وآباء كانوا ضمن قادة التأسيس والبناء والقدوة والمثال، لقد سادت في حياة القائد الموحد وقوادم القيادات الخفية والعلنية التي عملت بكل الثقة والمحبة والإخلاص مع جلالته، ممارسة واداء الانتخابات المجالس البلدية، وصار الانتخاب سمة ملازمة للمهن والحرف وبات العمل النقابي مهنة وتأصيلا في الممارسة العملية في تحديد جلي وواضح للمهمات والاختصاصات، فالصاغة والجوهرجية، وشركات السيارات وغيرها من المهن والحرف تجري لها انتخابات لشيخ الصنعة «المهنة» الحرفة وهذا الشيخ المنتخب هو الذي يقوم بقيادة التنظيم المهني والحفاظ على أخلاقيات المهنة والتحكيم في الجودة وإنصاف الممارسين لها والمستفيدين من خدماتها فيما لو شجر خلاف، بل لعل من أهم الجذور الاجتماعية للديمقراطية وثقافة الانتخاب في بلادنا هو ما برح المجتمع القبلي يمارسه من انتخاب شيخ القبلية أو النائب أو العريفة أو شيخ العشيرة أو الفخذ أو ما هو أوسع فيما هو متعارف عليه بشيخ الشمل أي شيخ المشايخ وأمير القبيلة، فهذا الاختيار يتم وفق آلية ديموقراطية حيث يكون في كل قرية/ بلدة مجموعة من العقلاء الذين يمثلون رأي الجماعة وهم في الاساس إما من أهل الجاه والثراء الذين فرض عليهم هذا الموقع الاجتماعي مهام وواجبات أكبر حكما وإسهاما في الخدمة والضيافة عن غيرهم أو من المتعلمين، هؤلاء يستمزجون في جولة انتخابية أولى رأي العموم من السكان في اختيار الشيخ ومن ثم يقترعون في الموافقة على اختيار الشيخ أو حلول أحد قرابته محلة في حالة الوفاة أو العجز أو عدم الرغبة فيه، وهؤلاء العقلاء هم الذين يعضدون بالرأي قرارات الشيخ، وفي الأمور الهامة كتقرير الجهاد أو البيعة فهو يسير ومعه هؤلاء العقلاء الذين يستمدون من بقية سكان القرية «البلدة» القبيلة الحجية والسند في التقرير قبولا أو رفضا، أي أن الشيخ غير مطلق الصلاحية في البت في الأمور ذات المساس بأمور القبيلة ومصالحها، هذا الإطار التنظيمي، يمارس استنادا على الولاء والانتماء للأرض، ولم يأت هذا من فراغ فللأرض قوانين وتنظيمات في الأسواق ومواعيدها وحراستها وجباية الزكاة وتوزيعها وتنظيم أعمال الري مشاربة ومساقاة وغيرها من التنظيمات التي تكون قوامها ديمقراطية الحوار والانتخاب.
وفي مجتمع المدن كانت انتخابات العمد للأحياء«الحارات» الحلة، وكذلك مساعدو العمد الذين يسمون نقباء يساعدون العمدة في العناية بشؤون الحي وهم عيون له للتعريف على السكان وبحث مشاكلهم، كذلك الحال بالنسبة للمجالس البلدية التي كان أعضاؤها ينتخبون بالكامل، ولعل المجلس البلدي في العاصمة المقدسة مكة المكرمة عمرها الله مثال حي في الذاكرة والوجدان.
وقد أشار الدكتور صالح محمد جمال في مقال «الانتخابات الثلث والثلث كثير» المنشور في صحيفة المدينة المنورة يوم الاثنين 24 شعبان من هذا العام إلى أن المجلس كان منتخبا بالكامل ولم يكن من أعضائه أحد بالتعيين من قبل الحكومة.
والسيد صالح جمال أحد الرموز الخيرة في هذا الوطن رحمه الله قد كان رئيسا للمجلس البلدي للفترة من 1377 إلى 1390ه منتخبا فائزاً على أربع دورات انعقاد تشريعي مدة كل دور أربع سنوات، وكان العام 1397ه هو عام التوقف بسبب صدور نظام جديد للبلديات وانتظار اصدار اللوائح التنفيذية المنظمة ولانتخابات المجالس البلدية.
كذلك الحال في العاصمة الإدارية للوطن- الرياض- مسقط رأسي واستقرار حياتي وأبنائي كان الانتخاب للمجلس البلدي على نفس المسار في مكة المكرمة، ولعل أمير الرياض سلمان بن عبدالعزيز لم تبعد صورته وهو يقف في صفوف الناخبين عام 1384هـ في انتخابات المجلس البلدي في الرياض الذي رأسه المنتخب محمد بن صالح بن سلطان رحمه الله.
وقد احسن الأستاذ محمد بن عبدالرحمن القشعمي فيما نشره في صحيفة الجزيرة 29 شعبان العام الجاري من التذكير بما نشرته نفس الصحيفة نفسها من اخبار وتغطية للانتخابات للمجالس البلدية في الرياض بتاريخ 16/2/1384هـ التي تمت أيام 17/18 من الشهر نفسه وكان من ضمن المقترعين الأمير سلمان بن عبدالعزيز، لقد كان الوصف جميلا لسير عمليات الانتخابات والاقتراع والصناديق وحرية الاختيار والقرار، وكذلك كان الحال فيما نشرته مجلة اليمامة لصاحبها حمد الجاسر غفر الله له بتاريخ 16/2/1384هـ تحت عنوان «غداً انتخابات المجلس البلدي» وحسناً فعل الدكتور صالح بن عبدالله المالك فيما نشره في صحيفة الجزيرة الثلاثاء 25/شعبان العام الجاري أيضا، وما تبعه من المحاضرة في خميسية حمد الجاسر الثقافية عن ثقافة الانتخابات، فقد اثبت الرجل بمصداقية عالية ومهنية احترافية مقدرة من خلال ما كان له من إسهام في التحضير لصدور اللوائح التنفيذية لنظام البلديات من خلال منصبه وكيلا لوزارة الشؤون البلدية والقروية للشؤون البلدية آنذاك.
لعل المثال الذي ما برحت ممارسة الانتخابات فيه جارية هو الغرف التجارية ونشوء تنظيمات مجموعات التطوير وما ينافسها من مجموعات مماثلة في الشعار والاستشعار، من خلال الحملات الترويجية والاستقطابية التي هي من روح المنافسة الشريفة في الدعاية الانتخابية في الحض على المشاركة والسماع للخطط الدعائية والطرح للمشروعات الموعودة من قبل المترشحين للانتخابات، كذلك الحال مع الشركات المساهمة هي أيضا مازالت تمارس الاقتراع من خلال الجمعيات العمومية للمساهمين في انتخاب مجلس الإدارة؟.
وإن ما نشرته صحيفة عكاظ في الاسبوع الاول من رمضان من مفهوم عينة من الشباب عن المجالس البلدية من أنها معنية بالنظافة هو ما يؤلم ويوجع أن ترسخت القطيعة المعرفية، وهنا كيف يمكن ان نخلق ثقافة الانتخابات.
أنا مع العقلاء الذين طرحوا من الرؤى الجميلة بسرعة العودة إلى ما كان سائداً في بداية قيام الدولة الكيان من الانتخابات، وفي حقيقة وجود الجذور الاجتماعية في أصل ثقافتنا ومن العقلاء الذين اسعد بالسير مع نهجهم الدكتور محمد عبده يماني والدكتور صالح المالك والدكتور فائز صالح جمال والدكتور عبدالله بن عبدالعزيز العسكر والدكتور رائد خالد قرملي ونجيب الزامل وغيرهم من الرموز الوطنية المخلصة، ودعونا نحمد الله أن وفق ولاة الأمر للوفاء بروح المسؤولية الاجتماعية والرسمية لمواصلة مسارات الإصلاح والمشاركة الشعبية ولا سيما انه حان قطاف ثمرات الوعي الفكري والتعليم المتنامي عددا وفي القريب عدة بما سوف يتم من تطوير مسيرة التعليم.
* باحث وأكاديمي سعودي
|