لقد بذلت المملكة بسخاء «حكومة وأفراداً» في العمل الخيري التطوعي، وسجلت بذلك أرقاما قياسية في أعمال الإغاثة والإعمار وسد رمق المحتاجين والمنكوبين في مختلف بقاع المعمورة. وليس المقام الآن لسرد مناقب العمل الخيري السعودي الذي فاق - بكل اقتدار - مقاييس عالمية في مختلف مجالات العمل الخيري. ولكنني هنا أعرض - بايجاز - استقراءً لمنهجية العمل الخيري خلال العقود الماضية، حيث تشير المراجعة المتأنية إلى ان الحرص البريء على فعل الخير ودعم المحتاجين والمنكوبين في العالم، وسيادة الأعراف المجتمعية المحبة للخير، قد أدى إلى وجود نقص في السياسات المكتوبة المنظمة للأعمال الخيرية في المجتمع، وعدم بناء الممارسات الخيرية على أسس استراتيجية محددة سلفا بكل تفصيلاتها، مما جعل تلك الممارسات تسير وفق تلك الأعراف المجتمعية مدعومة ببعض التنظيمات العامة التي لا يمكن وصفها بأنها سياسات تفصيلية محكمة.
فاستنادا إلى تركيبة المجتمع القائمة أساساً على البناء العاطفي المتديِّن، والنزعة المترسخة نحو البذل والعطاء والغوث، واعتمادا على الايمان العميق لدى أفراد المجتمع بأن مساعدة الآخرين مطلب ديني وانساني محترم، انطلقت الأعمال الخيرية في كل اتجاه، وقام عليها مؤسسات وأفراد متعددون، واستطاعت بالفعل ان تحقق انجازات عظيمة، ولكن وفق تلك الثقافة الشفوية والأعراف المهنية الخاصة، وأحيانا كثيرة تبعا لاجتهادات فردية مخلصة. وقد كان ذلك ممكنا في زمن مضى، حين كان المجتمع بسيطا، وعلاقاته الاجتماعية أكثر بساطة. ولكن مع تعقد المجتمع ودخوله مراحل من التفاعل الدولي والاتصال العالمي المركّب لم تعد تلك الأعمال الخيرية حكراً على المخلصين، بل يمكن القول إنه في غياب التقنين المؤسس، وفقدان الأنظمة التفصيلية الكاملة للجهود الخيرية، تمكّن بعض ضعاف النفوس من دخول هذا الميدان لاستغلاله لتحقيق أغراض وأهداف مشبوهة لا توافق عليها الدوائر الرسمية ولا التكتلات الشعبية الراشدة، ولا يمكن قبولها أو دعمها، ولا تدخل ضمن منظومة العمل الخيري، وقد كان من الصعوبة بمكان تحقيق فرز دقيق لبعض تلك الأعمال الدخيلة التي قام كثير منها على اتفاقات وتعاملات غير مستندة إلى لوائح واضحة، مما أدى إلى ظهور قوائم لأشخاص وهيئات ومنظمات استفادت من الايرادات الضخمة للعمل الخيري دون أن تكون ذات علاقة بالمصارف الشرعية لتلك الايرادات، ولا يمكن تصنيفها ضمن مستحقي العمل الخيري. وقد وجد أقطاب الاختراق الدولي هذا الباب مشرعا للدخول من خلاله وبمقولات مبررة أحيانا قد يصعب على خاصة الناس الدفاع عنها، ناهيك عن عامة الناس، ووقع لذلك أفراد ومؤسسات في ذنب لم يقترفوه، ويصعب عليهم الدفاع عن موقفهم تجاهه إلا بطول صبر وعظيم حكمة.
* عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام بالرياض |